الشيخ محمود محمد شاكر ، شيخ المحققين ، المدافع عن اللغة العربية ودين الإسلام والثقافة الإسلامية ضد دعاة التغريب وأتباع الاستعمار.
الأربعاء، 30 يونيو 2010
الثلاثاء، 29 يونيو 2010
تهجم على التخطئة (السلام عليكم)
محمود محمد شاكر
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فَقَدْ رأيتُكَ تستغرب هذه التحيَّة المبارَكة[1] التي يُهديها الرجل إلى أخيه، وأتاك هذا الاستغرابُ مِن أنَّ قومًا زعموا أنَّ (القاعدة): هي أن نبتدئ الكتابَ بـ(سلام عليك أو عليكم)، بدون (أل) التعريف، فإذا جاء الختام، قلنا: "السَّلام عليك أو عليكم"، وأنَّ بَدء الكتاب بقولنا: "السلام عليكم" خطأٌ شائعٌ في هذه الأيام... إلخ.
واستدللتَ بقول الله - تعالى - في كتابه الكريم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ﴾ [الزمر: 73]، وقوله - سبحانه -: ﴿ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [الذاريات: 25]، في أكثر من ثلاثين موضعًا على وجوه مختلفةٍ، وصَدَق الله الذي يقول في سورة مريم: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 33]، بـ (أل) التعريف، وصَدق الله الذي يقول في سورة طه لموسى وهارون: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]، بـ (أل) التعريف - أيضًا - فلا تستغرب يا سيِّدي! ولا تستغرب أيُّها السيد الكريم إذا علمتَ أنَّ أهلَ القِبلة جميعًا كانوا ولا يزالون، وسيظلُّون إلى آخِرِ الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى مِن سجوده وقعد للتشهُّد: "السلام عليك أيُّها النبي، ورحمة الله وبركاته"، ولا تستغرب إذا أنت قرأتَ في "صحيح البخاري" في باب ما يُتخيَّر من الدعاء بعد التشهُّد ليس بواجب: حدَّثنا مُسدَّد، قال: حدَّثنا يحيى، عن الأعمش، حدَّثني شَقيق، عن عبدالله، قال: "كنَّا إذا كنَّا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصلاة، قلنا: السَّلام على الله مِن عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقولوا: السَّلام على الله؛ فإنَّ الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيَّات لله، والصلوات والطيِّبات، السلام عليك أيُّها النبي، ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عِباد الله الصالحين - فإنَّكم إذا قُلتُم، أصاب كلَّ عبدٍ في السماء، أو بيْن الأرض والسماء - أشهد ألا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخيَّر من الدُّعاء أعجبَه إليه فيدعو))"، وكذلك في باب التشهُّد في الآخرة مِن "صحيح البخاري".
ولا تستغرِبْ يا سيِّدي - أيضًا - إذا مرَّ بك وأنت تقرأ في "مسند أحمد بن حنبل" (ج4/ ص 439) من حديث عمران بن حصين: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: السلام عليكم، فردَّ، ثم جلس، فقال - يعني رسول الله -: ((عشْرٌ، ثم جاء آخَر، فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله، فردَّ، ثم جلس، فقال: عشرون، ثم جاء آخَر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردَّ، ثم جلس، فقال: ثلاثون)).
أقول: يعني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: عشر حَسَنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حَسَنة، وكلُّ ذلك بـ (أل) التعريف أيضًا.
ولا تستغربْ يا سيِّدي إذا رأيت في مادة (سلم) مِن "لسان العرب": "ويُقال: السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذْف عليكم، ولم يرد في القرآن غالبًا إلا مُنكَّرًا، فأمَّا في تشهُّد الصلاة، فيقال فيه مُعرَّفًا ومُنكَّرًا، وكانوا يَستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهْد؛ يعني: السلام الأول".
ومن هنا أتى مَن لا يُحسن العربيَّة، وقلَّ اطِّلاعُه على كُتِبها وفِقْهها - والاستحسان هنا مُنْصَبٌّ على ما كان في التشهُّد - فإنه كما ترى عَنَى بالأوَّل ما كان في التشهُّد، وبالآخر السَّلام الذي يُخرِجُ من الصلاة، وهذا شيءٌ قال به بعضُ فقهائنا وأئمتنا، استحسنوا من عند أنفسهم، أو ممَّا روَوا.
ولا تستغربْ يا سيِّدي إذا وقفتَ يومًا على قول الأخفش: "ومِن العرب مَن يقول: سلام عليكم، ومنهم مَن يقول: السلام عليكم، فالذي ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غيرِ المعهود"، ثم عاد فقال: "وفيهم مَن يقول: سلام عليكم، فلا ينوِّن".
ثم ذكر العِلَّة، فقال: "حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذْف الزيادة من الكلمة كما يُحذف الأصل على نحو (لم يكُ)، والآخر أنه لما كَثُرَ استعمال هذه الكلمة، وفيها الألْف واللام، حُذِفَا؛ لكثرة الاستعمال، كما حُذِفَا مِن (اللهم)، فقالوا: (لُهمَّ)"، وكأنه جعل السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كَثُرَ استعماله.
فلا تستغربْ إذا نظرتَ فرأيتَ أنَّ الذي جاء في مقالتي ليس خطأً ولا مجاراةً على خطأ، ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إنَّ أدعياء اللغة إنما يُؤتَوْن مِن سوء التقدير لما يقرؤون، وممَّا انطوَتْ عليه قلوبُهم من حبِّ التعالُمِ على الناس بشيء يدَّعونه، ويلتمسون له الحُجَّة، حتى ما يدرك أحدهم فرْقَ ما بين (سلام عليكم)، (وسلام)، (وسلامًا)، كما جاءتْ في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعًا، وبين ما جاء في كتاب الله أيضًا مِن قوله: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]، وقول رسولِ الله الذي تلقَّاه المسلمون عنه في تشهُّد الصلاة وفي التحيَّة.
واعلم يا سيِّدي، أنِّي قنعتُ لك ولنفسي وللناس بالنقْل مُجرَّدًا، ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما يَنبغي وما لا ينبغي، ولا تحرَّيتُ لك ولا للناس أن ألِجَ بهم موالجَ في دقيق العربيَّة وغامضها تدلُّ على أنَّ مَن نقلتَ أنتَ عنه هذا القول قد تمحَّل[2] وتهجَّم على ما لا عِلْمَ له به، وعلى ما لا يُحسنه ولا يُجيده!
فلا يغررْك التبجُّح بالعِلْم، ولا تقنعْ من المتحذلقين بما يسمُّونه: (القاعدة)، فلعلَّها باطلٌ مزوَّرٌ، وكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ، واجتراءٌ على العربيَّة هي مِن سوآته براءٌ، ولعلَّ دليلَهم يكون هو الدليلَ على بطلان ما يَزعمون كما رأيت، وفي هذا مَقْنع وهدًى.
والسلام عليكم ورحمة الله.
المصدر: الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 659)، فبراير 1946.
موقع الألوكة
أم على قلوب أقفالها
محمود محمد شاكر
هذه أوَّل مرَّة أستبيحُ لنفسي أن أجعلَ ما تسمعُه أذناي مادَّةً لبعض حديثي إلى الناس بالكتابة، فذلك ليس مِن شيمتي ولا خُلقي؛ لأنِّي أعدُّ اللجوء إلى هذا النمط - ولا سيَّما حين أتناول أمرًا من أمور الأدب أو العِلم، أو السياسة أو غيرها - خروجًا على ما أدَّبني به طولُ اعتزالي الناس، من ترْك المبالاة بما تتلاغطُ به جماهيرُ من الخلق تُعدُّ خطأ في "المثقفين"، وليسوا بهم، ولكنَّهم - إذا حصَّلت ما في صدورهم وقلوبهم وعقولهم - أصحابُ ثرثرة وترترة وبربرة (وهي ثلاثة ألفاظ متقاربة في معاني اللَّغَط والإكثار والهذر، بَيْد أنَّ الفروق بين ثلاثتها تدلُّ على أنَّ هذه اللُّغة الشريفة غاية في براعة التصوير بألفاظها الجامعة).
وهم أيضًا في حقيقة أمرِهم مزاميرُ مزعِجة، مختلطة الأصوات في المجالِس، أو شجرٌ مرُّ الثمر، مزروع على قوارع الطُّرق، أو أحلاس مرذولة لكهوف المقاهي المظلِمة أو المضيئة، ولكنَّها على ذلك كلِّه أحلاسٌ ذات فحيح، أو ذات جَعْجعة، ثم لا شيءَ وراءَ ذلك، إلاَّ ما قدَّر المقدِّر من تكاثرها وانتشارها وشيوعها في حياتنا، بأسباب يَعجب المرء كيف جاءتْ، ولِمَ اتفقت؟! فإذا هي في زيِّ أستاذ، أو مفكِّر، أو فيلسوف، أو أديب، أو شاعر، أو كاتب، أو فنَّان، أو ما شئتَ ممَّا تعلم وترى وتسمع!
وقد أجاءني طولُ اختباري له وتجرِبتي (أجاءني؛ أي: اضطرني إلى أضيقِ الطرق) أن أعتزلَ عِشرتَها ومصاحبتَها منذُ زمان، وأن أنفضَ ثوبي مِن ثيابها، وأن أقنع بعِشْرةِ أهل الفضل من قليل الناس، حتى خِلتُني قد دخلتُ مع شيخ المعرَّة - رحمه الله - فيما دخل فيه، حيث وعظ نفسه وقال:
لَمْ يَبْقَ فِي الْعَالَمِينَ مِنْ ذَهَبٍ وَإِنَّمَا جُلُّ مَنْ تَرَى شَبَهُ[1]
دَعْهُمْ فَكَمْ قَطَعَتْ رِقَابُهُمُ جَدَعًا وَلَمْ يَشْعُرُوا وَلاَ أَبَهُوا
قَدْ مُزِجُوا بِالنِّفَاقِ فَامْتَزَجُوا وَالْتَبَسُوا فِي الْعِيانِ وَاشْتَبَهُوا
وَمَا لِأَقْوَالِهِمْ إِذَا كُشِفَتْ حَقَائِقٌ بَلْ جَمِيعُهَا شُبَهُ
دَعْهُمْ فَكَمْ قَطَعَتْ رِقَابُهُمُ جَدَعًا وَلَمْ يَشْعُرُوا وَلاَ أَبَهُوا
قَدْ مُزِجُوا بِالنِّفَاقِ فَامْتَزَجُوا وَالْتَبَسُوا فِي الْعِيانِ وَاشْتَبَهُوا
وَمَا لِأَقْوَالِهِمْ إِذَا كُشِفَتْ حَقَائِقٌ بَلْ جَمِيعُهَا شُبَهُ
وقد حَمَلني على استباحة ما أنا مستبيحُه هذا الغلامُ الباغي، السليطُ اللِّسان، الوالِغ في آداب العرب وتاريخِها، العابثُ في جهلِه بلغتها، وبقرآنها، وبحديث نبيِّها - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبشِعر شُعرائها، مُمكَّنًا من كلِّ ذلك بفضل مؤسَّسة الأهرام التي اتَّخذتْه لها مستشارًا ثقافيًّا، وتركت له الحبلَ على الغارب، يسرَحُ ويمرح، ويرتع ويلعب، وكأنَّها هي لا تدري مَن هو، ولا مَن يكون؟ فصار هو لا يُبالي من القُرَّاء، ولا مَن يكونون؟ وبعقلِه ظنَّ أنَّهم جميعًا بُلهٌ لا يعقلون!!
وسأَحْسم هذه المادة الخبيثة ببيان واضح؛ لأنِّي منذُ كنتُ على هذه الأرض، لا أُطيق أن أسلكَ إلاَّ السبل الواضحة البارِزة، ولا ألوذُ بالظِّلال المظلِمة متخفيًّا إلى غايةٍ أريدها، فذلك شيءٌ أَعافُه، وأُنزِّه نفسي عنه في خاصِّ أموري وعامِّها، هكذا عشتُ، وأسأل الله أن يُسدِّدني على ذلك ما بقي فيَّ نَفَسٌ يتردَّد، ومنذ شهور جاء ما لا صَبرَ عليه، وخرجتُ من معتزلي، حيثُ أحببت أن أقضيَ نحبي غيرَ مذكورٍ ولا معروف، وحملتُ القلمَ الذي كرَّم الله به عبادَه حيث قال لنبيِّه في تنزيله: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
وذلك بعدَ أن نحيَّتُه عن أناملي دهرًا مخافةَ أن أعجز، فلا أُطيق أن أقومَ بأمانته، وهي أشرفُ أمانةٍ استودعها الله حملةَ الأقلام من عباده.
خرجتُ يومئذ، وحملتُه لا لشيءٍ إلاَّ لأداء هذه الأمانة؛ لأنِّي أحسست أنَّ النكوصَ عن أدائها خيانةٌ لأمانة الله – سبحانه - وخيانة للعِلم الذي علَّمَنيه ربي، وخيانة للماضين مِن آبائي وللحاضرين مِن أهلي وعشيرتي، وللآتين من ذُريةٍ وارثة، نحن الأُمناءُ على تبليغها وأداء الأمانات كلِّها إليها، وهذا أمرٌ جِدٌّ كله، لا يخالطه عندي هزل؛ لأنَّه دينٌ أنا مسؤول عنه بين يدي ربِّ العالمين، وليس مغالبةً ولا حميَّة جاهليَّة.
وعسيرٌ جدًّا على خلق كثير، أن يُدرِك اليوم معنى هذا اللَّفظ "دِين" عندنا - نحن المسلمين - لأنَّ المسلمين منذ غُلِبوا على أمرهم بغلبة هذه الحضارة الأوربيَّة على الأرض مُسلِمِها وكافرِها، تلجلجتْ ألسنتُهم بالفَرَق والذُّعر لهول المفاجأة، فصار لسانُ أحدهم أحيانًا كأنَّه مضغةُ لحم مطروحة في جوبة الحَنَك، ليس من عملها البيان!! فمِن يومئذٍ خَفِي على الناس معنى "الدِّين"، إذْ لا مُبين عن معناه، وذاع في الأرض معنى "الدِّين" كما يراه سائرُ أصحاب "الدِّيانات" سوى الإسلام.
و"الدِّين" عندنا اسمٌ جامع لكلِّ تصرُّف يتصرَّفه المرء المسلِم في حياته، منذُ يستيقظُ من نومِه إلى أن يؤوبَ إلى فراشه، وفي كلِّ عمل يعملُه، مهما اختلفتْ هذه الأعمال، من أحقرِها وأدناها، إلى أشرفِها وأعلاها، كلُّ ذلك دِينٌ هو مسؤول عنه يومَ القيامة، كما يُسأل عن صلاتِه وصيامه وزكاته وحَجِّه، وإن كان في بعض ذلك على بعض فَضْلٌ، فالدِّين عندنا هو الحياةُ كلُّها، فحقُّ الله على العباد، وحقُّ العِباد على العباد، وحقُّ بدن العبد على العبد نفسِه، كلُّ ذلك دِينٌ هو مسؤول عنه، في الصغير والكبير، وفي أمْرِ الدنيا وأمر الآخرة، وهذا فَرْقُ ما بيننا وبين سائر أصحاب المِلل في معنى "الدين"، بلا مثنويَّة؛ (أي: بلا استثناء).
فمَن ظنَّ أنِّي حين أحمل القَلم، أحمله وأنا مُستخِفٌّ بهذه الأمانة، أو مداهنٌ في طريق أدائها، فقد أخطأ، ومَن ظنَّ أني أُفكِّر حين أفكِّر لأكتبَ، وأنا مُسقِطٌ عن نفسي وعن كاهلي عبءَ هذه الأمانةَ، فقد أخطأ، ومَن ظنَّ أني حين أكتب في أدبٍ أو نقد، أو سياسة، أو ما كان من أبواب القوْل، لا أرى شيئًا من هذا أمانةً ينبغي أن أؤديَها على وجهها، وبحقِّها، فقد أخطأ، وكيف، وأنا أخاف أن ألْقَي الله ربي يومَ القيامة، فيناقشني الحساب، و((إنَّه مَن نُوقِش الحساب عُذِّب))؟! وصَدَق رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولن يحولَ بيني وبين أداءِ هذه الأمانة - إن شاء الله - إلاَّ عذرٌ قاهِر يَغلبُني، أو حتفٌ دائر يقبضني.
وهذا أمر لا أظنُّ لويس عوض وأشباه لويس عوض قادرين على إدراكِه حقَّ الإدراك، ولا أُبالي ألاَّ يُدركوه، لا لأنِّي أكرهُ لهم الخير، بلْ لأنِّي أرى نفوسًا قد مردتْ على الهوى والمكْر والتناجي بالإثم، فهي لا تكادُ تنقاد إلاَّ لِمَا مَرَدتْ عليه، فهذا المرءُ لا يزال يدور على الآذان يُزمزِم فيها (والزمزمة: تراطنُ علوج الفرس بصوت تُديره في حلوقها وخياشيمها، فيَفهم بعضُها عن بعض)؛ ليشيعَ عنِّي أنِّي عمدتُ فيما أكتب إلى "التجريح الشخصي"، وإلى "التعصُّب" على أهل دِين من الأديان، وإلى "بعث فتنة قوميَّة ودِينيَّة"، إلى سائر ما يُوسوس به، مما أَعِفُّ عن التصريح به مِن إفك يتمرَّغ فيه اللِّسان، ولقد كنتُ أشرتُ إلى بعض ذلك في المقالة الثامنة، ثم زدتُه بيانًا في المقالة التاسعة، بعدَ أن فوجئتُ بما أذهلني، حيث ردَّد هذا الكلامَ نفسَه مكتوبًا زميلي القديم الدكتور محمد مندور.
وقد مضى على ما كتبتُ شهرٌ أو أكثر، ولكن هذا الغلام لا يُريدُ أن ينتهي، ويأتيني الخبر بعدَ الخبر، فأجده لم يزلْ على العهد مقيمًا هو وشيعتُه، فيدور هو، ويديرهم هو أيضًا على الناس؛ ليَصبُّوا في الآذان التي شقَّها الله للسَّمْع، ما لا يجرؤ هو ولا أحدٌ منهم أن يكتبَه معلنًا به، ويفعلون ذلك ويُلِحُّون عليه، إذ هم صُموتٌ لا يردُّون عليَّ شيئًا ممَّا أقول؛ لتلبس وسوستُهم ثيابَ الشكوى، فتكون في استغفال عقول السامعين أسرعَ، وفي إشاعة قالةِ السُّوء عنِّي أمضى، وفي إقناع الغافل بأنَّ ذلك كائنٌ، وبأنَّه صحيح أفعلَ، على طول التَّرْداد لهذه الألفاظ المبهمة المعاني، الممجوجة المباني، السخيفة جِيئةً وذُهوبًا، حيث سارتْ في الطروس والآذان، وأنا لا يسوءني ذلك مِن فِعْلهم، فهي شِنْشِنةٌ قديمة، توارثَ داءَها طوائفُ من أبناء آدم منذُ كانوا على الأرض، بَيْد أنَّ العاقل مَن تأدَّب بأدب أخي سلول حين لقي مِن هذا الداء القديم ما لقي، فذكر قِصَّته فقال:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ![]() فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي ![]() غَضْبَانَ مُمْتَلِئًا عَلَيَّ إِهَابُهُ ![]() إِنِّي وَحَقِّكَ سُخْطُهُ يُرْضِينِي ![]() |
إنَّه فعل لا يسوءني قُلامةَ ظفر، ولكنِّي إذا سمعتُ خبرَه مِن سائل أو مستفْهِم ساءني أن أردَّ؛ لأنَّه ممَّا يؤذيني أن أكون كمثلِهم مستخفيًا بحديث أُسِرُّه، فمِن أجل ذلك عزمتُ على أن أكويَ هذا القرْح المُمِدَّ بكلمات لا تتلفَّع بالظلماء، ولا تدبُّ إلى أحد بالمَكْر الخفي.
وما يُذيع به هذا الإنسان وشيعتُه المبثوثون بين الناس، من أنِّي عمدتُ في مقالاتي إلى "التجريح الشخصي"، فهو شيءٌ من الباطل يلجأ إليه العاجز، يتَّخذه دِرعًا لعجزه، فيستخدم شناعةَ هذا اللَّفْظ المبهم وسيلةً إلى إقناع السامع بأنَّه لم يتوقَّف عن الردِّ عجزًا، بل تنزُّهًا وترفعًا عن التورُّط في ارتكاب مثله، ممَّا تَكرهه النفوس وتَعافه، ونعمْ فأنَا لم أحبسْ قلمي عن تسطير كلمةٍ بعد كلمة، فيها وصفٌ له يَسوءه هو أن يَسمعه؛ لأنَّه شيء يُخفِيه، أو يضمره، أو يعرفه هو عن نفسِه، ويتظاهر للناس بغيره، ويؤذيه أن يسمعَه الناسُ أو يعرفوه؛ لأنَّه كان يتمنَّى أن يظلَّ مكنونًا مضمرًا، ولكنِّي لم آتِ في كلامي بصفة واحدة من صِفاته، إلاَّ ولها دليلٌ ظاهر من نفس كلامه، لا فيما ذكرتُه من كلماته المقتبسة من مقالاته وكتبه وحسب، بل فيما لم أَذْكُرْه بعد، وسأذكره بدليل قاطع - إن شاء الله.
فليس "تجريحًا شخصيًّا" أن أَدْرُس ما كتب عن شيخ المعرَّة، فأجده قد تنفَّخ متطاولاً طولاً وعَرْضًا، وإذا هو بعدَ الفَحْص عن حقيقة تنفُّخه وتطاوله لا يُحسِن أن يقرأ كتابًا، ولا يحسن أن يَفهَم شِعرًا، فإذا قلت: إنَّه "شرلتان"، وهي كلمةٌ معروفة المعاني عندَ أصحابها، وفي استطاعته أن يقرأَ شرحَها في أيِّ معجم، فيجد هذا الشَّرْح مطابقًا لِمَا كان من فِعْله في دراسة رسالة الغفران، وفي تاريخ شيخ المعرَّة، فهل يكون هذا "تجريحًا شخصيًّا"؟!
وإذا رأيتُه قد أقرَّ على نفسِه أنَّه مبغضٌ للغة العرب "فكسر رقبة بلاغتها"، وأَنَّ إحساسَه بها ضعيف بالفِطرة، وأنَّه اعترف لنفسه بأنه "لم يقرأْ حرفًا واحدًا بالعربية بين سنِّ العشرين وسنِّ الثانية والثلاثين"، وهي سنُّ التكوين كما يقول في مَعْرِض ذِكْره لأبي العلاء، ثم رأيتُه يتهجَّم على أعظمِ أثر أدبي، وأوعره مسلكًا في لغة العرب، فيحاول أن يُفسِّرَه ويكشف غوامضَه، فهل يُعدُّ "تجريحا شخصيًّا" أن أقول له: إنَّك مجترئ دعيّ؟!
فإذا لم يقتصرْ على هذا حتى عمد إلى شِعْر الشيخ يشرحه بجهالته في العربية، ثم سوَّلت له نفسُه أن يُفسِّر أيضًا آيةً من القرآن العظيم بلا تحرُّج، ومدَّعيًا أنَّه قد قرأ تفاسيرَ القرآن، وموهمًا قرَّاءه أنَّ هذا التفسيرَ الفاسدَ مأخوذٌ منها، فهل يكون "تجريحًا شخصيًّا" إذا قلت له: إنَّك جاهلٌ جدًّا، وجريء لا تستحي؟!
هل أقصُّ القصَّة كلَّها، من هذا الموضع إلى أن كان ما كان منِّي، إذ سلكتُه بالدليل من قوله وفِعْله، مع صبيان المبشِّرين الذين عرفتُهم وخبرتُهم، واكتويت بنارهم منذ أكثرَ من أربعين سنة؟!
ما الذي يُريد هذا الإنسان منِّي أن أقولَه؟ أيُريدني على أن أدعَه يتكلَّم ويفعل، ثم أكتب لأحاورَه وأدواره، وأمسُّه بأطراف البنان؛ لأنَّه عند نفسِه إنسان "مثقَّف" ينبغي أن يُخاطب مخاطبةَ الإنسان "المثقَّف"؟! وماذا أفعل يا سيِّدي، إذا كنتُ أجِدُك إنسانًا غير مثقَّف؛ لأنِّي لستُ ممن يغرُّهم هذا الضَّرْب من "الثقافة"؟! هل تظنُّ أني قادر على أن أنخدع لك عن عقلي، فأنسَى كلَّ ما قرأتُ بالعربية وغير العربية، لا لشيءٍ إلاَّ لأعترف لك بهذا الضَّرْب من "الثقافة"، وإن خالف ما أعرفه مِن معنى "الثقافة" عندَ العرب والأعاجم، على اختلاف أجناسِهم ومِللهم ونِحَلهم؟! دعْ ذا، فإنَّه لا يُغني عنك فتيلاً، ولا تحملني على أوعرَ مما حملْتَني عليه بتهجُّمك على ما لا تعرف، وما لا تُحسن، وإذا كنتُ قد كرهتُ شيئًا، فأشدُّ ما كرهتُ أن غمستُ قلمي في صفاتك، ولولا أداءُ الأمانة على وجهها وبحقِّها، لأعفيتُه ممَّا أكره ويكره.
أمَّا "التعصُّب" على أهل دِين من الأديان، و"إرادة بَعْث فتنة قوميَّة ودِينيَّة"، فلا أدري ماذا أقول؟ أأقول ما يُقال في المثل: "رَمتْني بدائها وانسلَّتْ"؟ أم أقول ما عندي خبره، فأروي للناس أقوالاً وأعمالاً تدلُّ على المخبوء تحتَ أرديةِ "الثقافة"، وتحت طيلسان "الأستاذيَّة"؟ كلاَّ، فإنَّه معيب، ولكن حسْبي ما كشفتُ عنه في سالِف مقالاتي، وفيما سيأتي منها؛ ليكونَ اللَّفْظُ المكتوب هو البرهانَ الفاصل، لا الدعوى والشكوى والتباكي، واستغلال الدِّين الذي تنتسب إليه استغلالاً مشينًا، حتى تُلوِّح به في وجوه الناس، كأنَّك أنت الدِّينُ نفسُه، وكأنَّك أنت وحدَك الأمَّة التي تَدين به، فكلُّ ما يُقالُ لك ممَّا يكشف عن سوء طويَّتِك، فهو مُرادٌ به هذا الدِّين وأهلُه، إنَّه لقبيحٌ بك أن تفعل ذلك، ولكن ما لي أعظُك إذا كنتَ امرأً لا يُبالي؟!
وهذا المسكين قد استمرأَ هذه الألفاظَ المنكرة لعِلَّة، فإنَّه لَمَّا خرج على الناس يتبجَّح بدراسته رسالة الغفران، ووضع في رأس مقالتِه الرابعة بيتًا من شِعْر أبي العلاء، زعم هو أنَّه قاله في حلب، وهو في وصْف ناقة!! وقَرَأ فيه "الصِّليان"، وهو نَبْتٌ ترعاه الإبل: "الصُّلبان"، وهو جمع "صليب"- انبرى له الأخ الأستاذ عبده بدوي في عدد الرسالة (1087، 8 رجب سنة 1384)، فكشَفَ عن جهلِه وغروره، وتسرُّعه وسوء مقاصده، وتسامع الناس بما في هذه المقالة قبلَ أن تُنشر، ووَقَع إلى المسكين خبرُها، فبادَرَ في وسط المقالة الخامسة (الأهرام 9 رجب سنة 1384)، فأقحَم فيها "مربَّعًا" فيه تصويب، وقال في آخره: "وقد نبَّه إلى هذا الأستاذ الشيخ شاكر، المحقِّق المعروف"، وهذا هذر وادِّعاء؛ لأنِّي بلا شكٍّ غير معروف عندَه على الأقل؛ لأنِّي يوم كنتُ أكتب، كان هو لا يقرأ شيئًا بالعربية - أو كما قال - ثم لو أنَّه عَرَفني لعَرَف أنِّي لست "الشيخ شاكر"؛ لأنَّ ذلك معروف به أبي وأخي الأكبر - رحمهما الله - أمَّا أنا فكلُّ مَن يعرفني، يعرفني على حقيقتي، وحسبُك بهذا ادعاءً وتنفخًا.
ولَمَّا استقرَّ في نفس هذا الذكي المدقق، المثقَّف أيضًا أني "الشيخ شاكر"، فنشرتُ مقالتي الأولى بعدَ ذلك بأسبوعين، في عدد الرسالة (1089، 22 رجب سنة 1384) ذَهَب يدور على الناس زاعمًا أنَّ تعرُّضي للكتابة في شأنه وشأن شيخ المعرة، معناه أنِّي أريد أن أجعلَها "معركة دينية"، وكلُّ امرئ يعلم أنِّي لم أذكرْ في مقالاتي الأُوَل كلِّها، لا المقالة الأولى وحدَها شيئًا عن الدِّين، ولا عن التبشير، فمِن أين جاءَه عِلمُ هذا؟! من أن اسمي كان عنده "الشيخ شاكر"، وبلا ريبٍ هذا ذكاء خارق؛ لأنَّه ذكاء "مثقَّف من كبار مثقَّفينا" - كما قال الدكتور محمد مندور!!
والحقيقةُ أنَّ الأمر لم يأتِ على هذه الصورة وحدَها، بل أتى أيضًا من أنَّه يَعْرِف نفسَه على حقيقتها، ويعلم ما وراءَ "الخلوة المشهودة بين أشجار الدردار عندَ الشلال بكامبردج"، ويعلم أنَّه كَتَب ما كتب عن شيخ المعرة، وعن غير شيخ المعرة، بوحيٍ مِن "الخلوة المشهودة"، وأنَّه قد وَهَب نفسَه لهذه الخلوة منذُ قديم.
فلمَّا جئتُه أنا في أوهامِه وسماديره في صورة "شيخ" انشقَّ فؤادُه عن مكنونه، وذُعِر وطافتْ به سماديره، وجرى اللفظُ على لسانه من فرْط الرُّعْب، ولا يدري، فلمَّا رآني قد شققتُ عنه ما كان يتخفَّى فيه طيلسان الأستاذ الجامعي كان - سُقِط في يدِه، وأخذتْه "الجذبة" وظلَّ يهدر: "التعصب" "الفِتنة القومية" "الفتنة الدينية"، واستحلَّى هذه الكلمات، ولكن هذه الحيلة لا تجوزُ على مِثْلي، وإن كانتْ قد جازتْ على زميلي القديم الدكتور مندور.
هذا هو السببُ، وإذا عُرِف السبب، بَطَل العجب، أليس ذلك مما يُقال في المثل؟! وأسوأ شيء أن يَضطرَ المرءُ إلى تحليل السُّخْف الذي ينحلُّ صديده من العقول؛ ليردَّه إلى أصوله ومنابعه، ولكن هكذا قدَّر الله عليَّ أن ألقى، وابتلَى القرَّاءَ بي، وبما أكتب.
ولو كان هذا المسكين كاتبَ مقالة كتَبها ثم انتهى، أو قائل كلمة نفَّس بها عن نفسِه ثم سكت، لتركتُه حيث هو في سكراته وغمراته، ولكن البلوى أنَّه صبيٌّ مبشِّر، ثم اندسَّ حتى صار بغتةً مستشارًا ثقافيًّا لمؤسَّسة الأهرام، بعد جهالة أمره وخمول ذِكْره، فأحدثَ لهذه الصحيفة العظيمة القَدْر في بلاد العرب وبلاد المسلمين، ببلواه بلوى لا يَدري المرء كيف يصفها؟ ونظام "التبشير" معروف، وقياداتُه في بلاد الغرب معروفة، وهي ظاهرةٌ علانيَّة في مؤسَّساته، وباطنة خفيَّة في الجامعات، وفي وزارات الاستعمار.
ومَن ظنَّ أنَّ التبشير - كما أوضحتُ مرارًا - يعمل ظاهرًا مكشوفَ السِّتْر عن أصحابه ورؤوسه وأعوانه وصبيانه، فقد ظنَّ خيرًا! ومَن ظنَّ أنَّ "التبشير" يلجأ إلى الصراحة في الدَّعوة إلى دِيانته، ونقْد الدِّيانات الأخرى التي يُباغيها، فقد ظنَّ به شيئًا شريفًا! بل هو حليفُ السراديب المظلِمة حيث نشأ، فأساليبُه مُظلِمة ملتوية، غامضة مداهنة منافقة؛ فمِن أجل هذا الذي أعلمُه، والذي خبرتُه بنفسي، لا بالسَّماع والقراءة، لم أتردَّدْ لحظةً في مباغتةِ هذا العابث بالكشْف عن حقيقة أمرِه، وباستخراج الدليل المُبين عن مقاصدِه ومراميه، ثم حاولتُ في خلال ذلك أن أُبيِّن لمؤسسة الأهرام أيَّ بلاءٍ أنزلَه هذا اللاهي بمنزلتها عند الناس، ومع ذلك فقد أردتُ أن أكونَ في محاولتي رفيقًا، ولكنْ كلماتُ هذا المسكين التي يُبرطِم بها في الخلوات، ويُوسوس بها في الآذان، تحملني آسفًا على أن أَزيدَ هذا الأمر وضوحًا وانكشافًا.
فأنا أقرأُ صحيفةَ الأهرام منذ وعيتُ وقرأتُ، على ما كان مِن فَسادِ أمرِها أيَّامَ كانتْ في أيدٍ غير أمينة ولا مخلصة، مع ذلك فإنِّي لم أَرَها قطُّ كانت في مثل هذه الحالة التي صارتْ إليها، منذ أصبح أو أمسى هذا الإنسانُ مستشارًا ثقافيًّا لمؤسَّساتها، فإنَّ "التعصب" (أي: الانحياز إلى عصابة من الناس لها هدفٌ ظاهر أو خفي) لم يكن قديمًا مما تراه العين فيها يومًا بعدَ يوم، لا تكاد تخطئه، ولكن منذ انحطَّ عليها هذا الإنسان، انحطتْ معه ظواهرُ كثيرة، حتى صارتْ صحيفةُ الأهرام هي الصحيفةَ التي كادت تكون متفرِّدة بهذه الألوان الفاقعة، الدالة على اتِّجاه بعينه، سواء في مادَّتِها، أو في كُتَّاب هذه المادة، وأحسستُ يومئذٍ أنَّ الجهاز كلَّه بدأ يتحرَّك، وقد كان، فبعد قليل أصبح الأمرُ لا خفاءَ به، وعلى مرِّ الأيَّام صار للمستشار الثقافي سلطان ظاهر، وفائض مِن هذا السلطان يستطيع أن يُخضِع له بعضَ أدوات الإعلام الأخرى، وظهرتِ الأعراضُ في بعض المجلاَّت، واستَشْرَتْ فيها استشراءً مبينًا، وتتابع المدَد، وإذا كلُّ شيء يدور في فلكِه.
وتظنُّ أني أغالي، وأرفع شأنَ مَن أصفه بما وصفتُه به، وكأنَّه تناقضٌ أقع فيه؛ ولكنِّي أقول مرَّة أخرى: إنَّ جهاز "التبشير" في العالَم كلِّه كأنَّه جهازٌ واحد، والتكافل بين مؤسَّساته شديد العُرَى، وحسبُك ما أسلفت من ذِكْر مؤتمراتهم في المقالة السادسة وما بعدها.
فالعامل في هذا الجهاز لا يقتصرُ أمرُ قوَّتِه على نفسه أو منزلته، بل على التدبير المُحْكَم، والسياسة البصيرة والأعوان المدرَّبِين، وعسى أن يكون أظهرُ عمَّاله اسمًا وأبينُهم سلطانًا هو أقلَّهم شأنًا، وأبعدَهم عن مواطن الريب، فليس في الأمر إذًا غلوٌّ ولا تناقض.
ومؤسَّسات "التبشير" في مصر معروفةُ الأسماء والأعلام، ونَشْؤُها الذي كفلته ورعته ونشَّأته لا ارتيابَ فيه، هذا فضلاً عن جمهرةٍ من المخدوعين تعمل في ميدانه، وهي لا تدري أنَّها تعملُ لِهَدْم أمَّتها وبلادها؛ لأنَّهم قد أخذوا من المأْخَذ السَّهْل الذي كشفتْ عنه كلماتٌ نقلتُها آنفًا في مقالاتي، وهو "التعليم" الذي تتولاَّه معاهدُ هي في ظاهرِها العِلم، وباطنها للتبشير المجرَّد.
وبعد سنة 1956، وهي سنة العُدوان الثلاثي الذي تجمَّعت له دولُ الاستعمار والتبشير الكُبرى، بدأت جرثومةٌ ذات نشاط مُفرِط، كان من عقابيلها المستشارُ الثقافي لمؤسَّسات الأهرام، وأخذ الاتجاه يستبين شيئًا فشيئًا، حتى أصبحتِ الأسماء التي تدلُّ على أصحابها، والأساليب التي تنمُّ عن مكنون ضمائرهم، والغايات التي تترامَى إليها مقاصدُهم - هي الغالبةَ على جميع أبواب صحيفة الأهرام، وإنِ اتخذتْ أحيانًا سَمْتَ البحث المجرَّد في مصالِح الأمَّة، ووجوه الإصلاح مع النَّغمة العالية في الاهتمام بالأهداف التي صَحِبت انتفاضةَ القوميَّة العربية، وهي القوميَّة الجامعة لمائةٍ وعشرين مليونًا من العرب، ثلاثةٌ وتسعون في المائة منهم مسلمون على الأقل، لا يظنُّ أحدٌ أنَّه سهل إذا أفاقوا، أن يحذفوا تاريخَ أربعة عشر قرنًا من حياتهم، بجرَّة قلم من مؤسَّسات "التبشير".
وهذا الضجيجُ العالي، وهذه الأسماء التي انبثَّتْ فجأة فأصبحتْ تُخايل عيونَ الناس يومًا بعدَ يوم، في هذه الصحيفة، وفي غيرِها من المجلاَّت التي كان لجهاز المستشار تأثيرٌ ظاهر عليها - عادةٌ قديمة جدًّا، ارْتَكَبها "التبشير" أو "الاستعمار" مرَّات في مواضعَ كثيرة من الأرض العربية، وأقربُها مثالاً صحيفة الأهرام نفسها، وصحيفة المقطَّم، والهلال، والمقتطف، وعشرات من المجلاَّت والصحف في بلادنا، وغير بلادنا.
هذا إلى الأبواقِ التي انطلقتْ معها؛ لتعليَ من ذِكْر جماعات من الكُتَّاب والشعراء، والعلماء والأدباء، حتى جاء يوم وقال فلان وفلان من المستشرقين المحْدَثين، وتابعتهم فئات من "المثقفين"، معلِنين أنَّ النهضة الأدبيَّة في بلاد العرب إنَّما هي عالةٌ كلُّها على "نصارى لبنان"، هكذا قالوها بصريح العبارة، وهي كلمةٌ لا تزال تُقال إلى اليوم، يقولها ذو الآفَةِ متعمِّدًا، والبريء مقلِّدًا، وهي مقالةٌ باطلة من جميع نواحيها، ليس هذا مكانَ الإبانةِ عن بطلانها؛ لأنِّي إنَّما أردتُ أن أدلَّ على أنَّ هذه الطريقة قديمةٌ مألوفة، لجؤوا إليها قديمًا لأغراض، أرجو أن أكشفَ عنها في مقالة مما سيأتي - إن شاء الله.
وهذا الأسلوب الذي استحدَثه المستشار الثقافيُّ لصحيفة الأهرام، وهذا الجهاز الذي أداره في داخلِها وخارجها - أدَّى إلى التساؤل في بلادٍ كثيرةٍ من بلاد العرب والمسلمين، وهو شيءٌ أقوله بعلمي؛ لأنِّي أتلقَّى السؤال عنه من كلِّ مقيم ووافد، ما بين الهند إلى المغرب، وهو سؤال يُحرِج المرءَ أن يُجيب، ولكن ماذا يملك الناس إلاَّ أن يسألوا، وهم إنَّما يَعدُّون هذه الصحيفةَ صحيفتَهم الأولى، سواء صدَّقتْ مشاعرَهم مؤسَّسةُ الأهرام، أم كذَّبتْ بها؟!
وبالطبع، لا يستطيعُ أحدٌ منهم أن يحصل على هذا الكتاب النفيس المطروح على الأرْصِفة، فيعلم أنَّ مصر قد انقلب الأمرُ فيها فجأة، فصارتْ نسبة عدد السكَّان اليوم: 66 في المائة مسلمين، 33 في المائة غير المسلمين، بعدَ أن كانت النسبة منذ سنة 1917 إلى سنة 1947 في أربع إحصاءات على عهْد الاحتلال الإنجليزي المسيحي هي: 92 في المائة مسلمين، 7 في المائة غير مسلمين؛ وذلك لأنَّ أستاذًا فاضلاً كان "مهندس آثار خريج جامعة بنسلفانيا بأمريكا"، وهو مؤلِّف يقول بلا تحرُّج ما نصُّه: "وتعداد الأقباط يربو على الثمانية ملايين، ويدينون بالمسيحية، ويؤدُّون شعائرَهم الدِّينيَة باللُّغة القبطيَّة، رغمَ أنَّ الغالبية العُظمى لا تتكلَّم بها، ويحافظون على كثير من عاداتهم وتقاليدهم، ورغمَ مشاركتهم المسلمين في التكلُّم بالعربية، ورغم وقوعها تحتَ الحُكم الإسلامي مدة 13 قرنًا".
وأنا أترك للقارئ التأمُّلَ في الدافع الذي يدفع إلى مثل هذا الكلام، والنظر في الشُّعور الذي تحمله هذه الكلمات الأخيرة، وبالطبع، ليس هذا تعصُّبًا، أو بعثَ فتنةٍ قوميَّة ودينية، ولكن نقلي إيَّاه هنا، هو "التعصُّب" وهو "الفتنة" أليس كذلك؟!
وأحبُّ أن أكونَ بيِّنًا عند هذا الموضع، فإنَّ القبطَ الذين يسكنون مصر، منتشرون في أرجائها من حدود البحر المتوسط إلى أقصى الصعيد، وآلاف مؤلَّفة منهم تعمل في أعمالِها دائبةً لا تُبالي ما يقول هؤلاء "المثقَّفون" خريجو جامعات (كامبردج) وبنسلفانيا وغيرهما، ولا تفقه شيئًا ممَّا يُزمْزِمون به هم وأشياعهم، وقد عاشوا ثلاثةَ عشر قرنًا أو تزيد، لا يحملون هذا الذي يحمله أصحابُ الألسنة الفصيحة التي تفلسف، وتتأدَّب وتؤرِّخ، وتعبث ما شاء لها العبث، وتعطي مقادتَها لمستعمر لا يُريد بها ولا بسائر العرب والمسلمين خيرًا، والظنُّ بهم - وهم سوادُ القبط - ألاَّ يمكِّنوا هذه الفئةَ الجاهلة من أسماعهم، فإنَّها إذا تمكَّنت منها أضلتْهم، فإذا ضلُّوا بضلالها، أساؤوا إساءةً لا يمحوها عذر.
إنَّ هذا الجهاز جهاز التبشير، الذي يعمل بلا مللٍ ولا كلال، والذي يُجدِّد أساليبَه مع كلِّ زمان، وعند المخافة من انكشافها، ينبغي أن يتوقَّف، وكهوفُ السرار والدس والتخابث، التي عندها مفاتِح حركته، ينبغي أن تكفَّ، فالعالَم العربي الذي بدأ يتحرَّك بملايينه، فيدخلون هم خُفيةً في حركته؛ ليوقعوا فيها الاضطرابَ والحَيْرة والبلبلة، يوشك أن ينتبَه فجأة، فمَن يعصمهم يومئذٍ إذا أخذَهم أخْذة رابية؟
إنَّ هذا الأمرَ الواضح العواقب، لا يستغلقُ إلاَّ على مِثْل عقول المبشِّرين المغلقة، وعلى مِثْل قلوبهم الغُلف، وعلى مثل ذكائهم الذي لا يُحسِن إلاَّ المكر والخديعة، وإذا ظنَّ هؤلاء البُلْه أنَّ ما مرَّ بنا من مكرِهم في استعمارهم الماضي، وفي تخابُثِهم بعدَ زواله عن أرضنا، سوف ينتهي إلى أن يتحوَّل الإسلامُ إلى صورة جديدة في العقيدة، وصورة جديدة في الحياة، وعندئذٍ تكون نهايته، وتبتلعه النصرانية - كما زعم لهم القسيس "ينج" في بعضِ تقاريره - فإنَّهم ليظنُّون، ولكن هلاَّ ظنوا أيضًا أنَّ الظنون وحدَها ترمي في المتالِف!
هذه كلمة كنتُ أحبُّ ألاَّ أكتبَها، ولكنِّي لن أعرضَ لشيء أثارني إليها مرَّة أخرى، ولو ظلَّ هذا الإنسان واقفًا على أفواه الطُّرق، يتلقَّى السابلةَ بالصياح والشكوى والتباكي، ويلجُّ بأمثال هذه الكلمات التي لا تُغنِي عنه شيئًا، ولا تنال مني كبيرَ نَيْل، وليس على الأرض أجهلُ مِن قوْم يستعرضون الناس بالأذَى، فينالون مِن آدابهم ولُغتهم وتاريخهم، ودِينهم وأنبيائهم، فإذا زجَرَهم زاجرٌ وانتهرَهم، راحوا يُعْوِلون ويضرعون؛ ليسترِقُّوا القلوبَ بالإعوال والضراعة، كأنَّهم مظلومون قد اعْتَدَى عليهم زاجرُهم عن هذا الأذى الممقوت، ولا أجدُ فيما أعلم سِيرةً هي أوْلَى بالمقْتِ مِن هذه السِّيرة.
ــــــــــــــ
[1] الشبه: ضرب من النحاس يُلقى عليه دواء فيصفر، وإذا فعل به ذلك أشبه الذهب
المصدر: الرسالة، الخميس 24 شوال سنة 1384هـ
موقع الألوكة.
من مذكرات عمر بن أبي ربيعة
محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة بعَقِب حديثه):... فوالله لقد جَهَدَنا البلاء - يا أهل مكة - ولقد صبرنا على حصار الحجَّاج سبعة أشهر أو تزيد عن غير حصن ولا منعة، وإنَّ أحدَنا ليُرى وقد لحقت بَطْنُه بظهره من الجوع والطَّوَى، ولولا بركة تلك العين (يعني زمزم) لقضينا، وصدق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ))، لقد أشبعنا ماؤها كأشد ما نشبع من الطَّعام، وما ندري ما يُفْعَلُ بنا مُنذُ اليوم، فلقد خَذَل "ابنَ الزُّبَير" أصحابُه خذلانًا شديدًا، وما من ساعةٍ تمضي حتى يخرج من أهل مكة من يخرج إلى الحجاج في طلب الأمان، ألا شاهتْ وجوه قوم زعموا أنْ سينصرونه، يحمون "البيت" أن يُلحَد فيه، ثم ينكشفون عنه انكشافة كما تَتفرق هذه الحمامُ عن مَجْثمها على الرَّوْع...
وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجائها مِنْ صوت داعٍ ومكبِّر وقارئ، وصَمَدْت[1] أريد المسجد فأسمع أذان "سعد" مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيُصلي بنا أتمَّ صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقي من أصحابه أن يُوَدِّع أمه "أسماء بنت أبي بكر الصديق"، فأنطلق وراءه وما أكادُ أراهُ مما احتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضَّضُون ويُحرَّضون، وزحمت الناس المناكب، أرجو ألا يَفوتني مَشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه، ولقد تَعْلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء طُوالة كأنْ سرْحةٌ[2] في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنَّها تثبتُه وتُبصرُه، وقد برقَت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض[3] المتهلل، ثم تنادي بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه مع قوة إيمانها حنينُ قلبِها: "يا عبدالله، يا بُني، إنِّي أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تَهِن ولا تجزع، يا بني، ابذُل مُهجة نفسك، ولا تَبعُد إلا من النار... يا عبدالله، لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني"، ثم تدور لتلج الدار فكأنه شِرَاعٌ قد طُوِى.
رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادًا وألينهم قلوبًا، وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصَّبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها، فيتقطع عليه حَشاها.
وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكْسَبَ لعجب وأجَدَّ لحُزنٍ من أُمٍّ ثكلى، يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزْهَرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبَالةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوهَ وأحزانها، فما أَرَى وُجُومَها وقُطُوبَها وانكِسَارَها ورَهَقَهَا وصُفرَتها، إلاَّ ذِلَّة النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمنَ حين يحضُرُه الهمُّ أَشْعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه - حين يؤمن - أبلجَ يتوقَّد، ليُكوِّن البُرْهانَ على أنَّ الإيمانَ صيْقَلُ الحياةِ الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإِمَّا رَكِبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة.
وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيتُ ابن ذاتِ النَّطاقين قائمًا بين الناس كأنه عمودٌ من طُولِه واجتماعه، ووثاقَة بنائِه، وحَضَرْته وهو يقول: "أيها الناس، عجِّلوا الوِقاع، ولا يرعكُمْ وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجلٌ كيف يضرب، لا تُخطِئوا مضاربكم فتكسِرُوها، فإن الرجُلَ إذا ذهب سلاحُه كان أعزَلَ أعضبَ[4] يؤخَذُ أخذًا كما تُؤخذ المرأة، لِيَشْغَلْ كلُّ امرئٍ قِرْنَه، ولا يُلهينَّكم السؤالُ عني: أين عبدالله بن الزبير؟ ألا منْ كان سائلاً عني، فإني في الرَّعيل الأوَّل"... ثم يدفَعُ أسدٌ في أَجَمَةٍ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة[5] في منازلهم من الرُّعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننتُ أنه لا يُقْتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رُمي بحجرٍ فأصاب وجْهَهُ فبلغ منه حتى دَمِي، وسال دَمُه على لحيته، وأُرعشَتْ يدُه... وغَشِيهُ أصحابُ الحجَّاج من كلِّ ناحية وتغاوَوْا[6] عليه، وهو يقاتلهم جَاثِمًا أشدَّ قتال حتى قُتِل.
وارحمتا لك يا بنت أبي بكر! أيُّ كَبِدٍ هي أشدُّ لوعةً من كبدِكِ؟! لقد والله رُحمتِ رحمةً إذ كَفَّ الله منك البصر، لئن لم تكوني تجزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثَّلُوا به وحزُّوا رأسهُ، ورفعوه على خشبةٍ مُنكَّسًا مَصلوبًا.
وما كدْتُ حتى أقبلتْ أسماءُ بين يديها كفنٌ قد أَعدَّته ودَخَّنتْهُ[7]، والناسُ ينفرجون عن طريقِها في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الحُزْنُ والرُّعب، قد انتُسفت وجوههم كأنَّما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكنت الأوصالُ، وجالت الأحداقُ في مَحاجرها وكأنَّها همَّت تخرُج، وتمشي أسماءُ صامدة[8] إلى الخشبة صمدًا وكأنَّها ترى ابنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحة دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ - وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُمْ، ورجفت بهم قُلوبُهم - وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله، فقالت: "يا بُنَيَّ، طبتَ حيًّا وميِّتًا، ولا والله ما أجزعُ لِفراقك يا عبدالله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل، فقد قُتِلْتَ على حق، والله لأثْنِيَنَّ عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بُني مُسلمًا محرمًا، ظمآن الهواجر، مصلِّيًا في ليلك ونهارك".
ثم أقبلتْ وجهها السماءَ ومدَّت بيديها تدعو: "اللهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيتَ له، فأثبني في عبدالله ثوابَ الشاكرين الصابرين، اللهمَّ ارحم طولَ ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبرَّهُ بأبيه وبي".
ووجم الناس وجمةً واحدةً، وخشعوا خشعةً لكأنَّ السماءَ والأرض صارتا رتقًا، فما يتنفَّسُ من تنفَّس إلا من تحتِ الهمِّ والجهد والبلاء، وكأنَّ مكة بيتٌ قد غُلٌِّتْ عليه أبوابهُ لا ينفُذُ إليه أحد ولا يبرحه أحد، وكأنَّ الناس قد نزعت أرواحهم، وقامت أبدانهم، وشخصت أبصارهم، وبدت أسماءُ بينهم وكأن وجهها سراج قد نُصَّ على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنَّما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد[9]، وأضاء ثغرها عن ابتسامة، والله لقد بلغتْ من العمر وما سقطت لها سنٌّ، ومازال ثغرها ترفُّ غروبه[10]، ثم قالت: "يا بَنِيَّ، لأشدُّ ما أحببتم الحياة، وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه، يا بنِيَّ، يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيرًا".
وأطرقت أسماءُ إطراقةً، ثم رفعت رأسها تُومِئُ إلى الخشبة، فوالله لقد رعدت فرائصي حتى تَزَايلتْ أوْصالي، وصَرَّ الناسُ كأنما تقصَّفت أصلابُهم[11]، وإذا هي تقول: "أَلاَ منْ مُبْلغ الحجَّاج أن المُثْلَة سبَّة للحيِّ وما تضرُّ الميِّت، ألا مَنْ يُبْلِغ الحجَّاجَ عنِّي أن الشَّاةَ إذا ذُبِحَتْ لم تألم السَّلْخَ".
وحامتْ أسماءُ وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يُرَى إلاَّ بريق وجهها يومِضُ كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردِّد: "يا بَنِيَّ، أمَا آن لهذا الراكبِ أن ينزل؟! أَمَا آن لهذا الراكب أن ينزل؟! يا بَنِيَّ، ليستأذنْ أحدُكم حَجَّاجَكمُ هذا أن يَدفَع إليَّ هذه العظام، أدُّوا عني، يرحم الله من أدَّى عنِّي".
فيجيء الرَّسول من قِبل الحجاج يأبَى عليها أن تُدْفَعَ إليها عظَامُ ابنها المصلوب، ويَجيءُ على أثره موكَّلون قد وكَّلهم بجثَّته يقومون عليها يَحرسونها، كأنَّما خَشِي أن يَحيا ميتٌ قد حُزَّ رأسه أن تمسَّهُ يَدُ أُمِّه، فوالله، فوالله، لقد سمعتْ أسماءُ وخُبِّرتْ فما زادت على أن وَلَّتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دمْع، وما تُجاوز قومًا إلا جاوزتهم كأنَّهم فُسطاطٌ يتقوَّض، حتى ولجتْ بابَها وغلَّقَته عليها.
وانطلقتُ أنفضُ الناسَ بعينيَّ، فرأيتُ أخي الحارث - ابن عبدالله بن أبي ربيعة - وابن أبي عتيق - هو عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق - ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ، فقلت: ما هذا أوان جزع، انطلقوا بنا - يرحمكم الله - إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله، لقد تُخوِّف أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالقٌ كَبِدَها ما لَقِيَتْه، ويطرق الباب ابن أبي عتيق، فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ، فمَهْ، فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه، ويؤذن لنا فندخل دارها تَجِفُ قلوبنا من الرَّوع والرَّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزوج حواريِّه - عليه السَّلام - وكأن قد تركنا الدُّنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.
استضحكت أَسماءُ حتَّى بدت نواجذُها، وقالت: "مرحبًا بكم يا بَنِيَّ، جئتم من خلل الناس تعزُّون أُمكم في عبدالله، يرحم الله أخاكم لقد كان صوَّامًا قوَّامًا ما علمتُ، وكان ابن أبيه الزُّبير أوَّلِ رجل سلَّ سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر.
يا بَنِيَّ، والله لقد حملتُه على عُسْرَةٍ، والمسلمون يومئذ قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطَّفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنينًا بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفلَ مكة في هجرة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطَّعام، ويسكنُ الطلبُ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما، ونسيت أن أتَّخذَ لهما عِصامًا[12]، فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة، فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجِدُ إلاَّ نطاقي وأنا حُبلى مُتِمٌّ، فيقول أبو بكر: يا أسماءُ شقِّيه اثنين، فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمَّاني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذات النِّطاقين))؛ يعني: في الجنة، وأعود بعبدالله يرتكض في أحشائي، قد احتسبتُ نِطاقيَّ في سبيل الله، فوالله ما أجدني احتسبتُ بُنَيَّ عبدَالله اليوم إلاَّ كما احتسبت نطاقيَّ ذاكم، وأَعود إلى دار أبي بكر، ويأتي نفرٌ من قريش فيهم أبو جهلٍ، فوقفوا ببابها، فأخرج إليهم، فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي، فيرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فيلطم خدِّي لطمة يطرح منها قُرطي فتغُول بي الأرض الفضاء، فوالله، لَمَا لقيتُ من حَجَّاجكم هذا أهونُ عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل، وأنا بعبدالله حامِلٌ مُتِمٌّ، يا بَنِيَّ، إني آخرُ المهاجرين والمهاجراتِ، لم يبق على ظَهرِها بعد عبدالله منهم غيري، فلا والله ما حَسَنٌ أن يَجزَعَ من هاجَرَ - وإنَّ شأن الهجرة لشديدٌ - وما حَسنٌ أن يجزع من شَهد المشاهد مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف وقد أربيت[13] على المائة؟!
يا بني، جزاكم الله عني وعن أخيكم خيرًا، قوموا لشأنكم وذروني وشأني يرحمكم الله".
وودَّعنا وانصرفنا، ولا والله ما نجد لأسماء في الرِّجال ضَرِيبة[14] فأين في النِّساء؟! ولكنَّها كانت تصبر صبر المهاجرين الأوَّلين على الجهد والبلاء.
وما كان صُبح خامسة من مقتل ولَدها حتى استجابت لدعوة ربِّها - رضي الله عنها - وأرضاها، وهي أمٌّ حنَّت تكتم حنينها، ولكأنَّه عجَّل بها موته فقطع نياطها وصدع فؤادَها، وفَلَقَ كَبِدًا عليه حنينها إليه.
وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجائها مِنْ صوت داعٍ ومكبِّر وقارئ، وصَمَدْت[1] أريد المسجد فأسمع أذان "سعد" مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيُصلي بنا أتمَّ صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقي من أصحابه أن يُوَدِّع أمه "أسماء بنت أبي بكر الصديق"، فأنطلق وراءه وما أكادُ أراهُ مما احتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضَّضُون ويُحرَّضون، وزحمت الناس المناكب، أرجو ألا يَفوتني مَشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه، ولقد تَعْلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء طُوالة كأنْ سرْحةٌ[2] في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنَّها تثبتُه وتُبصرُه، وقد برقَت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض[3] المتهلل، ثم تنادي بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه مع قوة إيمانها حنينُ قلبِها: "يا عبدالله، يا بُني، إنِّي أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تَهِن ولا تجزع، يا بني، ابذُل مُهجة نفسك، ولا تَبعُد إلا من النار... يا عبدالله، لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني"، ثم تدور لتلج الدار فكأنه شِرَاعٌ قد طُوِى.
رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادًا وألينهم قلوبًا، وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصَّبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها، فيتقطع عليه حَشاها.
وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكْسَبَ لعجب وأجَدَّ لحُزنٍ من أُمٍّ ثكلى، يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزْهَرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبَالةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوهَ وأحزانها، فما أَرَى وُجُومَها وقُطُوبَها وانكِسَارَها ورَهَقَهَا وصُفرَتها، إلاَّ ذِلَّة النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمنَ حين يحضُرُه الهمُّ أَشْعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه - حين يؤمن - أبلجَ يتوقَّد، ليُكوِّن البُرْهانَ على أنَّ الإيمانَ صيْقَلُ الحياةِ الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإِمَّا رَكِبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة.
وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيتُ ابن ذاتِ النَّطاقين قائمًا بين الناس كأنه عمودٌ من طُولِه واجتماعه، ووثاقَة بنائِه، وحَضَرْته وهو يقول: "أيها الناس، عجِّلوا الوِقاع، ولا يرعكُمْ وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجلٌ كيف يضرب، لا تُخطِئوا مضاربكم فتكسِرُوها، فإن الرجُلَ إذا ذهب سلاحُه كان أعزَلَ أعضبَ[4] يؤخَذُ أخذًا كما تُؤخذ المرأة، لِيَشْغَلْ كلُّ امرئٍ قِرْنَه، ولا يُلهينَّكم السؤالُ عني: أين عبدالله بن الزبير؟ ألا منْ كان سائلاً عني، فإني في الرَّعيل الأوَّل"... ثم يدفَعُ أسدٌ في أَجَمَةٍ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة[5] في منازلهم من الرُّعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننتُ أنه لا يُقْتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رُمي بحجرٍ فأصاب وجْهَهُ فبلغ منه حتى دَمِي، وسال دَمُه على لحيته، وأُرعشَتْ يدُه... وغَشِيهُ أصحابُ الحجَّاج من كلِّ ناحية وتغاوَوْا[6] عليه، وهو يقاتلهم جَاثِمًا أشدَّ قتال حتى قُتِل.
وارحمتا لك يا بنت أبي بكر! أيُّ كَبِدٍ هي أشدُّ لوعةً من كبدِكِ؟! لقد والله رُحمتِ رحمةً إذ كَفَّ الله منك البصر، لئن لم تكوني تجزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثَّلُوا به وحزُّوا رأسهُ، ورفعوه على خشبةٍ مُنكَّسًا مَصلوبًا.
وما كدْتُ حتى أقبلتْ أسماءُ بين يديها كفنٌ قد أَعدَّته ودَخَّنتْهُ[7]، والناسُ ينفرجون عن طريقِها في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الحُزْنُ والرُّعب، قد انتُسفت وجوههم كأنَّما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكنت الأوصالُ، وجالت الأحداقُ في مَحاجرها وكأنَّها همَّت تخرُج، وتمشي أسماءُ صامدة[8] إلى الخشبة صمدًا وكأنَّها ترى ابنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحة دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ - وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُمْ، ورجفت بهم قُلوبُهم - وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله، فقالت: "يا بُنَيَّ، طبتَ حيًّا وميِّتًا، ولا والله ما أجزعُ لِفراقك يا عبدالله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل، فقد قُتِلْتَ على حق، والله لأثْنِيَنَّ عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بُني مُسلمًا محرمًا، ظمآن الهواجر، مصلِّيًا في ليلك ونهارك".
ثم أقبلتْ وجهها السماءَ ومدَّت بيديها تدعو: "اللهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيتَ له، فأثبني في عبدالله ثوابَ الشاكرين الصابرين، اللهمَّ ارحم طولَ ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبرَّهُ بأبيه وبي".
ووجم الناس وجمةً واحدةً، وخشعوا خشعةً لكأنَّ السماءَ والأرض صارتا رتقًا، فما يتنفَّسُ من تنفَّس إلا من تحتِ الهمِّ والجهد والبلاء، وكأنَّ مكة بيتٌ قد غُلٌِّتْ عليه أبوابهُ لا ينفُذُ إليه أحد ولا يبرحه أحد، وكأنَّ الناس قد نزعت أرواحهم، وقامت أبدانهم، وشخصت أبصارهم، وبدت أسماءُ بينهم وكأن وجهها سراج قد نُصَّ على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنَّما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد[9]، وأضاء ثغرها عن ابتسامة، والله لقد بلغتْ من العمر وما سقطت لها سنٌّ، ومازال ثغرها ترفُّ غروبه[10]، ثم قالت: "يا بَنِيَّ، لأشدُّ ما أحببتم الحياة، وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه، يا بنِيَّ، يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيرًا".
وأطرقت أسماءُ إطراقةً، ثم رفعت رأسها تُومِئُ إلى الخشبة، فوالله لقد رعدت فرائصي حتى تَزَايلتْ أوْصالي، وصَرَّ الناسُ كأنما تقصَّفت أصلابُهم[11]، وإذا هي تقول: "أَلاَ منْ مُبْلغ الحجَّاج أن المُثْلَة سبَّة للحيِّ وما تضرُّ الميِّت، ألا مَنْ يُبْلِغ الحجَّاجَ عنِّي أن الشَّاةَ إذا ذُبِحَتْ لم تألم السَّلْخَ".
وحامتْ أسماءُ وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يُرَى إلاَّ بريق وجهها يومِضُ كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردِّد: "يا بَنِيَّ، أمَا آن لهذا الراكبِ أن ينزل؟! أَمَا آن لهذا الراكب أن ينزل؟! يا بَنِيَّ، ليستأذنْ أحدُكم حَجَّاجَكمُ هذا أن يَدفَع إليَّ هذه العظام، أدُّوا عني، يرحم الله من أدَّى عنِّي".
فيجيء الرَّسول من قِبل الحجاج يأبَى عليها أن تُدْفَعَ إليها عظَامُ ابنها المصلوب، ويَجيءُ على أثره موكَّلون قد وكَّلهم بجثَّته يقومون عليها يَحرسونها، كأنَّما خَشِي أن يَحيا ميتٌ قد حُزَّ رأسه أن تمسَّهُ يَدُ أُمِّه، فوالله، فوالله، لقد سمعتْ أسماءُ وخُبِّرتْ فما زادت على أن وَلَّتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دمْع، وما تُجاوز قومًا إلا جاوزتهم كأنَّهم فُسطاطٌ يتقوَّض، حتى ولجتْ بابَها وغلَّقَته عليها.
وانطلقتُ أنفضُ الناسَ بعينيَّ، فرأيتُ أخي الحارث - ابن عبدالله بن أبي ربيعة - وابن أبي عتيق - هو عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق - ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ، فقلت: ما هذا أوان جزع، انطلقوا بنا - يرحمكم الله - إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله، لقد تُخوِّف أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالقٌ كَبِدَها ما لَقِيَتْه، ويطرق الباب ابن أبي عتيق، فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ، فمَهْ، فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه، ويؤذن لنا فندخل دارها تَجِفُ قلوبنا من الرَّوع والرَّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزوج حواريِّه - عليه السَّلام - وكأن قد تركنا الدُّنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.
استضحكت أَسماءُ حتَّى بدت نواجذُها، وقالت: "مرحبًا بكم يا بَنِيَّ، جئتم من خلل الناس تعزُّون أُمكم في عبدالله، يرحم الله أخاكم لقد كان صوَّامًا قوَّامًا ما علمتُ، وكان ابن أبيه الزُّبير أوَّلِ رجل سلَّ سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر.
يا بَنِيَّ، والله لقد حملتُه على عُسْرَةٍ، والمسلمون يومئذ قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطَّفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنينًا بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفلَ مكة في هجرة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطَّعام، ويسكنُ الطلبُ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما، ونسيت أن أتَّخذَ لهما عِصامًا[12]، فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة، فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجِدُ إلاَّ نطاقي وأنا حُبلى مُتِمٌّ، فيقول أبو بكر: يا أسماءُ شقِّيه اثنين، فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمَّاني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذات النِّطاقين))؛ يعني: في الجنة، وأعود بعبدالله يرتكض في أحشائي، قد احتسبتُ نِطاقيَّ في سبيل الله، فوالله ما أجدني احتسبتُ بُنَيَّ عبدَالله اليوم إلاَّ كما احتسبت نطاقيَّ ذاكم، وأَعود إلى دار أبي بكر، ويأتي نفرٌ من قريش فيهم أبو جهلٍ، فوقفوا ببابها، فأخرج إليهم، فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي، فيرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فيلطم خدِّي لطمة يطرح منها قُرطي فتغُول بي الأرض الفضاء، فوالله، لَمَا لقيتُ من حَجَّاجكم هذا أهونُ عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل، وأنا بعبدالله حامِلٌ مُتِمٌّ، يا بَنِيَّ، إني آخرُ المهاجرين والمهاجراتِ، لم يبق على ظَهرِها بعد عبدالله منهم غيري، فلا والله ما حَسَنٌ أن يَجزَعَ من هاجَرَ - وإنَّ شأن الهجرة لشديدٌ - وما حَسنٌ أن يجزع من شَهد المشاهد مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف وقد أربيت[13] على المائة؟!
يا بني، جزاكم الله عني وعن أخيكم خيرًا، قوموا لشأنكم وذروني وشأني يرحمكم الله".
وودَّعنا وانصرفنا، ولا والله ما نجد لأسماء في الرِّجال ضَرِيبة[14] فأين في النِّساء؟! ولكنَّها كانت تصبر صبر المهاجرين الأوَّلين على الجهد والبلاء.
وما كان صُبح خامسة من مقتل ولَدها حتى استجابت لدعوة ربِّها - رضي الله عنها - وأرضاها، وهي أمٌّ حنَّت تكتم حنينها، ولكأنَّه عجَّل بها موته فقطع نياطها وصدع فؤادَها، وفَلَقَ كَبِدًا عليه حنينها إليه.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] صَمَدَ المكان وإليه: قَصَدَه.
[2] السَّرْحة: الشجرة الطويلة العظيمة.
[3] العارِض: السحاب يعترض في الأفق.
[4] الأعضب: أصله في الحيوان، وهو المكسور القَرْن.
[5] حاص (كسار): رَجَع، وفي حديث أَنَس يوم أُحُد: "وحاص المسلمون حَيْصَةً"؛ أي: جالوا جولةً يطلبون الفرار.
[6] تَغَاوَوْا عليه: تجمَّعوا عليه، وهي بالعين المهملة أيضًا.
[7] دَخَّن الثوبَ: جعل فيه الدُّخْنَة، وهو بُخُور تُدَخَّن به الثياب والبيت.
[8] صَمَد المكانَ وإليه: قَصَدَه.
[9] الخوالد هنا: بمعنى الساكنة كالجبال والحجارة والصُّخور.
[10] الغروب: جمع غَرْب، وهو الماء على الأسنان يكسبها بَرِيقًا.
[11] صر: صدر عنهم صوتٌ كالصرير، وجاءت هذه العبارة في شعر العطوى:
[12] عِصام السِّقاء والقربة هو رباطها وسَيْرها التي تُحْمَل به.
[13] أربى: زاد وأَوْفَى.
[14] الضريبة: النظير والشبيه.
[1] صَمَدَ المكان وإليه: قَصَدَه.
[2] السَّرْحة: الشجرة الطويلة العظيمة.
[3] العارِض: السحاب يعترض في الأفق.
[4] الأعضب: أصله في الحيوان، وهو المكسور القَرْن.
[5] حاص (كسار): رَجَع، وفي حديث أَنَس يوم أُحُد: "وحاص المسلمون حَيْصَةً"؛ أي: جالوا جولةً يطلبون الفرار.
[6] تَغَاوَوْا عليه: تجمَّعوا عليه، وهي بالعين المهملة أيضًا.
[7] دَخَّن الثوبَ: جعل فيه الدُّخْنَة، وهو بُخُور تُدَخَّن به الثياب والبيت.
[8] صَمَد المكانَ وإليه: قَصَدَه.
[9] الخوالد هنا: بمعنى الساكنة كالجبال والحجارة والصُّخور.
[10] الغروب: جمع غَرْب، وهو الماء على الأسنان يكسبها بَرِيقًا.
[11] صر: صدر عنهم صوتٌ كالصرير، وجاءت هذه العبارة في شعر العطوى:
وَلَيْسَ صَرِيرُ النَّعْشِ مَا تَسْمَعُونَهُ وَلَكِنَّهُ أَصْلاَبُ قَوْمٍ تَقَصَّفُ |
[13] أربى: زاد وأَوْفَى.
[14] الضريبة: النظير والشبيه.
المصدر: "الرسالة"، السنة السابعة (العدد: 297)، 1939م.
موقع الألوكة.
مقاليد الكتب:"أدب الجاحظ"
محمود محمد شاكر
مقاليد الكتب:"أدب الجاحظ"
تأليف حسن السندوبي – طبع بالمطبعة الرحمانية – صفحاته 247
نال الجاحظ من عناية الكُتَّاب في هذا العهد، ما لم ينلْهُ أديب أو عالم آخرُ من علماء العرب وأدبائهم.
ولا غروَ؛ فقد قيل: إن الفيلسوف ثابتَ بنَ قُرَّةَ الصَابِئَ الحرَّانيَّ قال: "ما أحسُدُ الأُمَّةَ العربية إلا على ثلاثة أنفُس:
-
أوَّلهم: عمر بن الخطاب. -
والثاني: الحسن بن الحسن البصري. -
والثالث: أبو عثمان الجاحظُ".
وقال ابن العميد: "كُتُب الجاحظ تُعلِّم العقل أوَّلاً والأَدَبَ ثانِيًا".
وقال كذلك: "ثلاثةُ علومٍ، الناسُ كلهم عيالٌ فيها على ثلاثة أنفُس؛ أما الفقه ... وأما الكلام ... وأما البلاغة والفصاحة واللَّسَن والعارضة، فعلى أبي عثمان الجاحظِ".
وقال ياقوت – بعد ما ذكر أنَّ ابنَ الإخشيد أقام بعرفات ينادي -: "يرحم الله مَنْ دَلَّنا على كتاب "الفرق بين النبيِّ والمتنبِّي" لأبي عثمانَ الجاحظِ على أيِّ وجهٍ كان" –: "وحسْبُك بها فضيلةً لأبي عثمانَ؛ أنْ يكون مثل ابن الإخشيد، وهو هو في معرفة علوم الحكمة، وهو رأس عظيم من رؤوس المعتزلة، يُستهام بكُتُب الجاحظ؛ حتى ينادِيَ عليها بعرفات والبيت حرام...".
وقال أبو القاسم الإسكافيُّ: "استظهاري على البلاغة بثلاثة: القرآن، وكلام الجاحظ، وشعر البُحْتُرِيِّ".
وجعل ابن دُرَيْدٍ كُتُبَ الجاحظ من متنزهات القلوب، لمَّا ذُكِرَتْ أمامَهُ مُتَنَزَّهاتُ الدنيا، أو مُتَنَزَّهَاتُ العيون كما دعاها.
وقد اطَّلعنا في خلال الشهرينِ الماضيينِ على كتابينِ منَ الكُتُب الحديثة في الجاحظ:
-
الأوَّل كتاب شَفِيق جَبْرِي، وقد ذكرناه في مقتطف أكتوبر الماضي. -
والثاني الكتاب الذي بين أيدينا الآن، وعلمنا أن خليل مردم بك وَضَعَ كتابًا في الجاحظ كذلك؛ ولكننا لم نره.
وعندنا بعدَ مطالعة كتابَيِ السندوبي وجبري:
أن الأول عُنِيَ بإيراد سيرة الجاحظ وآرائه؛ فأنت تخرج منه بصورة واضحة لشكله، وتعليمه، ورزقه، وبَسْطَةِ جاهه، ومقامه الأدبيِّ، ورأيه في المعتزلة، والكُتُب التي صنفها، أو المؤلفات التي نسبت إليه.
وعُنِيَ الثاني عنايةً بدرس أدب الجاحظ، وطريقته في البحث والتحقيق والنقد، وتحليل شعوره الديني، ونواحي أدبه من الضحك، إلى التهكم، إلى الصنعة، إلى الفَنِّ، وغيرِ ذلك.
فإذا استعملنا التعبير الغربيَّ قلنا: إن الأول تاريخٌ خارجيٌّ للجاحظ، والثانيَ تاريخ داخليٌّ، وكل منهما مكمِّل للآخَرِ.
وقد حقق المؤلف مولد الجاحظ؛ فرأى أن يعتمد النصَّ الذي جاء به الجاحظ، قال (صفحة 20): نقله إلينا ياقوت في معجمه؛ فقد روى أنه قال: أنا أَسَنُّ من أبي نُواسٍ بسنة، وُلدْتُ في أول سنة 150 هـ (767 م)، ووُلد في آخرها" وليس بعد هذا – في رأي المؤلف – نص يعتدّ به.
ثم أظهَرَنَا في الفصل الثالث على صورة من أساليب التعليم في ذلك العصر قال:
"فقد كان الرجل يَبعثُ بولده إلى كُتَّاب الحي؛ فيتعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة، ويشدو شيئًا من قواعد النحو والصَّرف، ويتناول طرفًا من أصول الحساب، ثم يستظهر كتاب الله الكريم استظهارًا تامًّا مجوَّدًا مرتَّلاً، وهو في خلال ذلك يتردَّد مع أترابه على القاصِّ؛ فيسمع منه أحداث الفتوح، وأنباء المعارك، وأخبار الأبطال، ومقاتل الفرسان، ومفاخرات الشجعان، وسِيَر الغزاة والفاتحين، ممزوجًا ذلك بالمواعظ والعِبَر، وإيراد أحوال الصالحين، وأطوار الزهاد والنساك والمتقين.
وبعد أن يأخذ من كُلّ طرف من هذه المعلومات نصيبَه الكافي، يولي وجهه شطر حلقات الدرس بالمساجد العامّة، والمعاهد الجامعة، والمدارس الخاصة؛ فيقوم من حلقة الفقيه إلى حلقة المحدِّث، ومن مجلس اللُّغوي إلى سارية النَّسَّابة، ومن حضرة الأخباريِّ إلى دارة المتكلم، ومن معهد المنطقي إلى مَجْمَعِ الفلسفيِّ، ومن مَحْفِل الأديب إلى قاعة المهندس، ومن بين يَدَيِ المفسِّر إلى حظيرة الأصوليِّ، ومن غرفة الراوية إلى بيت الشاعر، ومن ديوان الكاتب إلى صاحب النجوم، ومن الأُسْطُرْلابيِّ إلى الجغرافيِّ، ومن مشهَد الموسيقار إلى مقعد المُغَنِّي، ومن عند المزمار إلى دكَّانة الوتَّار. الصبيان والبنات في ذلك سواء، وإن كانت الغالبية في الصبيان دون أخواتهم. حتى السجون، فقد كان لأهلها حظٌّ مِنَ التعليم، وكان لهم معلِّمون يدخلون إليهم في أوقات معيَّنة".
وقد تلقى الجاحظ علومه على شيوخ البصرة والكوفة، وممَّنْ أخذ عنهم علومه الأصمعيُّ، وأبو زيد الأنصاريُّ، وأبو الحسن الأخفشُ، وممن تلقَّى عليه العلم المبرِّدُ صاحب "الكامل".
ويقال: إنَّه كان وهو في دور الطلب يعاني الاتجار في الخبز والسمك بسَيْحَانَ (نهرٌ بالبصرة)، وسواءٌ صَحَّ هذا الخبر أم لم يصحَّ، فقد درج الجاحظ في بُحْبُوبة من اليسر والرخاء، واتسعت موارد رزقه... فلا عجب أن يعلو على أمثاله فضلاً وفَهْمًا، وأن يُقدِّم للغة العربية هذه المصنفاتِ التي وضعها في كل ضرب من ضروب العلم، وفنٍّ من فنون الآداب على كثرتها وجليل شأنها. فإنَّ العطايا واللُّهى[1] تفتح اللَّها، على شريطة الاستعداد الفطري والكفاية الظاهرة (ملخصًا من الفصل الرابع)، وقد أشار مصطفى صادق الرافعي إلى ذلك في مقالته عن شوقي في هذا الجزء.
ومما عرض له المؤلفُ ولم يَدْعَمْهُ بإسنادٍ قولُه: إن الجاحظ أتى مِصْرَ قال: (صفحة 71) ووقعتُ في كتاب "الحيوان" على أنَّه وَفَدَ مصر، وأقام بها زمنًا، وأجرى بها اختباراتٍ فيما عثر عليه من حيوانها". وحبَّذَا الحال لو أشار إلى الفِقْرة التي نُصَّ فيها على ذلك، أو يَحصل ذلك من معناها. ولكنه كان شديد الحذر، لمَّا ذكر أنَّ الجاحظ كان يُلِمّ بالفارسية، قال: أَجَلْ، ليس هناك نص صريح، يملأ يد الباحث في هذا الشأن؛ ولكن هناك من العبارات والألفاظ ما يدفع إلى استنباط هذا الرأي... وقال كذلك بعد ما ذكر شاهدًا على قوله... فمسألة عِرفان الجاحظِ باللغة الفارسية تستنبط بالقُوَّة من خلال سطور كُتُبِه ولا تؤخذ بالنَّصّ.
وترى أنه كان شديد القسوة لما بيَّن أنَّ كتاب "التاج" ليس من مؤلفات الجاحظ (145 – 152)؛ فبعدما أورد نصَّ تَقْدِمَةٍ صَدَّرَ بها الجاحظ كتابًا له، ونصَّ تَقْدِمَةِ "التاج" وهما موجَّهتان إلى رجل واحد قال: "فأي امرئ له مُسْكَةٌ من عقل، أو أَثَارَةٌ منَ الذَّوْقِ، أو بقيةٌ من أدب، أو لُبَابَةٌ من فضل، يستطيع أن يقول: إن كاتب تلك التَّقْدِمَةِ هو كاتب هذه؟!". ولعل بلاغة العبارة ساقته في تَيَّارِ وَقْعِهَا؛ فانساق.
وفي الكتاب فصل مسهَب أُحصِيتْ فيه كلُّ مؤلفات الجاحظ، والمؤلفاتُ التي نُسبت إليه، وفصلانِ بَسَطَ فيهما مذهب المعتزلة، ورأيَ الجاحظ فيه، وفصولٌ أخرى تحتوي على نوادره ومختارات من نثره وشعره.
وفي حواشي الصفحات ترجماتٌ موجزة للأعلام الذين ورد ذِكْرُهم في المتن.
نقول: ويا ليتَ المؤلِّفَ توسَّع في بعض الفصول تَوَسُّعًا يَنْقَعُ الغُّلَّةَ؛ كالفصلين اللذين أفردهما لمعارف الجاحظ، وإحاطته وتحقيقه للعلم؛ فإنهما شديدا الإيجاز، ولكنه قد يفعل ذلك لدى نشره كتابَ "الحيوان" وكتابَ "البيان والتبيين".
ـــــــــــــــــــــــ
موقع الألوكة.
وهذه هي آثارها
محمود محمد شاكر
أحبُّ أن أجعل قارئ هذه المقالات على بيِّنة من سياقها، لا شكًّا في قدرته على متابعة ما أكتب؛ بل معاونة له ولنفسي على الإحاطة بتاريخ قضيةٍ مِن أعقد القضايا التي ابتُلي بها العالمُ العربي خاصة، والعالم الإسلامي عامة، ولا تزال حيَّة إلى اليوم؛ بل بلغتْ عنفوانها في هذه السنين الأخيرة، وليس لها شبيه في العالم كله، حتى في البلاد التي تعدّ لغتها وكتابة لغتها من أصعب اللغات وأشدها تشعُّبًا، كاللغة الصينية مثلاً، والكشف عن حقيقة هذه القضية - وهي قضية العامية والفصحى - كشفٌ عن أعظم مؤامرة خبيثة، بدأت خافتة، ثم علا صوتُها، واشتد ضجيجها، منذ سنة 1956، بعد العدوان الثلاثي على مصر، وبعد ارتداد قوى الشر على أعقابها، والمشتركون في القضية بين غافل لا يدري ماذا يقول، ولا ماذا يراد به، وبين ماكرٍ خبيث يضرم النار في الحطب؛ لتأكل الأخضر واليابس بعد قليل.
فقبل أن أبدأ أول مقالة في الكشف عن أمر لويس عوض حين اتَّخذ شيخ المعرة و"رسالة الغفران" أداةً لنفث سمومه في صحيفة الأهرام، كنت على تمام اليقين من أمر هذا المتدسس إلى أكبر الصحف العربية، واتخاذه إياها مسرحًا لعرض فصل مفزع شديد الخطر، على الغافلين عنه وعن الذين يحرِّكونه كما حركوا من قبله دمى كثيرة، كان لها أثر بالغ الخطر في حياتنا السياسية والأدبية[1].
كان لويس عوض متكشفًا لي غاية التكشف، كنتُ أراه عاريًا من كل ستر يخفيه، وأرى الخيوط التي تحرِّكه وتديره، ولكن صحيفة الأهرام التي جعلته مستشارًا ثقافيًّا لمؤسساتها، كانت قد لبَّست على الناس أمره؛ إذ أخرجتْه من خمول الذِّكر، إلى صيت يسير به حيث سارت، وأنا لا أدري على وجه التحقيق كيف وقع هذا؟! ولا مَن الذي هيأ لمثله هذه الفرصة؟ ولكني كنت أعلم أنه هو أو غيره، كان لا بد أن يتدسس إلى مثل هذا المكان، في غمرة الحوادث العظيمة التي مرَّت بنا في السنوات الأخيرة، وما ذلك إلا لأني كنت أتابع زحف هذه القوى الشريرة منذ قديم، بلا غفلة عنه، وكيف أغفل عنه، وقد كدت يومًا ما أكاد أكون أحد صَرْعى هذا الزحف، ورأيت إخوانًا لي قد صُرِعوا وأنا أراهم بعيني، منهم مَن نجَّاه الله كما نجاني، ومنهم مَن هلك فيمن هلك؟!
كيف أغفل عن هذا الزحف، وأنا لم أزل أشهد منذ عشرات السنين طلائع التخطيط المدبر، تنقضُّ على أمَّتي وبلادي من كل ناحية، ويتم لها كلُّ ما تريد، أو بعض ما تريد يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام؟! ومن أجل ذلك لم أحمل القلم منذ حملتُه، إلا وأنا مؤمن أوثق إيمان بأني أحمل أمانة، إما أن أؤديَها على وجهها، وإما أن أحطم هذا القلم تحت قدمي، بلا جزع عليه ولا على نفسي.
وأبيت منذ عقلتُ أمري أن أجعله وسيلة إلى طلب الصيت في الناس، أو ابتغاء الشهرة عندهم، عرَف ذلك مَن عرفه مِن خلطائي في هذه العزلة الطويلة الأمد التي ضربتها على نفسي، وجَهِل ذلك مَن جهله، وعلى شدة ما لقيت طول هذه السنين من ملامة تَلْحانِي على هذه العزلة التي رضيتُها لنفسي، لم أرضَ أن أخوض فيما يخوض فيه الناس، إلا كمثل تحلَّة القسم؛ أي: بمقدار مفرط القلة، غير مبالغ في ذلك ولا موغل، ولذلك صار رأيي مقصورًا على قلة من إخواني، كنت أبثُّهم ما أجد وما أعلم، ثم أحبس لساني عن كثير ممن ألقى من الناس، حتى صرت كالعيي الذي لا يحسن الإبانة عن ذات نفسه؛ لأن طول الكتمان، وترك تحريك اللسان بالرأي، مضرٌّ بالمرء كضرر الثرثرة بلا عقل.
فلما جاء ما لا يُسكت عليه؛ لشدة خطره، ظللت أؤامر نفسي طويلاً: أيَّ السبيلين أسلك؟ فلما تبيَّن لي الرشد، حملت القلم وأنا على بيِّنة من طريقي، طريق لن يخدعني عنه أحد بثناء أو ذم، فكلاهما لا يغرُّني ولا يرهبني، وقلت لنفسي: هذا إنسان تعرفينه على وجه، ويعرفه الناس على وجه آخر، تعرفينه بطول إلفك لأمثاله مخادعًا شديد الخداع، ويعرفه الناس مخدوعين أشد الانخداع، فكان بينًا لي أن أجعل همي كشفَ الزيف المفضي إلى الخديعة؛ لأكشف الأخطاء التي أخشى أن يصدِّقها الناس.
وكان بينًا لي أيضًا أن انخداع الناس بهذا الإنسان مأتاه من طريقين:
طريق صحيفة الأهرام التي وثق الناس بها؛ لظنِّهم أنها منذ انتزعت من أيدي أعدائهم صارت إلى أيدٍ أمينة لا تخون الأمانة، وطريق اللقب الذي يحمله هذا الإنسان، وصاحبُه عند الناس أمين أيضًا لا يخون الأمانة، فعندئذٍ لم أجد طريقًا أهدى لي وللناس من أن أبدأ بتحليل شيء من كلام هذا الإنسان على وجه الدراسة الأدبية؛ ليكون بيانُ زيفه إثباتًا قاطعًا على أن حامل هذا اللقب لا يستحقُّه بوجه من الوجوه، حين يتبين لكل أحد أنه دعيٌّ ثرثار، لا يحسن شيئًا من مناهج دراسة الآداب على وجه يليق بحامل هذا اللقب.
وأظنني قد بلغت في ذلك ما أريد، وأظنني لم أظلمه قلامةَ ظفر في شيء مما كتبتُ عن مناهج الدراسة الأدبية، ولم أجعل همي الكشفَ عن ادِّعاء هذا الدعيِّ وحسب؛ بل جعلت همي أيضًا أن أزيل الخبث من طريق الدراسات الأدبية؛ لعلمي أن هذه الدراسة هي أخطر الدراسات في أمم الأرض جميعًا، ولأن الغش فيها خفي ينساب، وهو لخفائه شديدُ التأثير في عقول الناس وفي تفكيرهم، وبالِغُ الضرر في حياة الإنسان عامة، ومنذر بخطر يغتال الفكر الإنساني، ويؤدي إلى تدمير الثقافة والحضارة جميعًا؛ لأنه يعتمد على الكلمة المنسابة، التي تركب الألسنة، وتنفذ في العقول، فتهدِّد سلامتها وبراءتها من الآفات، ومعلوم بالبديهة أن الغش والتزييف في العلم لا يؤذيان كأذاهما في الدراسات الأدبية؛ لأن كشفهما في العلوم سهل وميسور، ولكنه في الآداب عسير شديد العسر.
فكان بينًا عندي - وينبغي أن يكون كان بينًا عند القارئ - أني لم أكتب ما كتبت لأناقش عالمًا أو أديبًا أو مثقفًا؛ بل العكس هو الصحيح، إذ كان هذا الإنسان عندي ليس بعالم ولا أديب ولا مثقف؛ بل هو كان عندي دعيًّا، قد اتخذ هذه الصفات بشكلٍ ما وسيلةً لنشر خبائثَ يكتم حقيقتها عن الناس، ويدسّها في تضاعيف كلامه كما يفعل كلُّ داعية يبتغي الفتنة، ولا يبغي شيئًا غير الفتنة؛ ليصل إلى غايته فيما يدعو إليه، فمن أجل ذلك لم أكَدْ أفرغ من إقامة الدراسة الأدبية على نهجها، حتى عمدت بلا التواء إلى تجريده من هذه المراقع التي كان يتخفى فيها، تزييفًا على الناس، ودبيبًا إلى غفلاتهم بالخديعة والمكر، فلم أتردد في خلال ذلك لحظةً واحدة في وصف هذا الإنسان بالصفات التي تنطق بها كتابته وأعماله، مجردة من كل مداهنة في الحق؛ لأن ذلك ليس من شيمتي، ولأن التردد دونه عجزٌ وتخوف وخيانة للأمانة.
نعم، كنت خليقًا أن أدع التصريح إلى التلويح، لو كنت أعدّه داعية مفتونًا بدعوة ينفرد بها، ويريد التنفيس عن نفسه بالثرثرة؛ ولكني كنت أعلم علمًا لا يخالطه ارتياب أنه شيء تحرِّكه قوى شريرة أعرفها، خبرتُها بنفسي، ووجدت آثارها يومًا ما في عقلي ووجداني، وعلمتها قوى متضافرة شديدة الخطر، تتربص بأهلي وعشيرتي وبلادي الدوائرَ، فلم أستحلَّ أن أعامله معاملة الداعية المنفرد بدعوته، المنفِّس عن نفسه حرَّ الاحتراق بما يجد من النار الآكلة، وكيف أداهن أو ألوح، والنذر من حولي تصرخ وتعوي، وكل نذير يهدد بسوء عاقبة الغفلة عنه وعن أمثاله؟!
وأنا امرؤٌ لا أحبُّ الهمس والدندنة في الآذان سرًّا، ولا أحب التناجي الخفي بالإثم والعدوان تحت ستار من الظلمة، وأكره مَن يدور باللائمة من مجلس إلى مجلس غير معالن ولا مصرِّح، فمِن أجل ذلك كتبت هذا؛ لأهتكَ هذا الستر البغيض إلى النفوس الصحيحة، ولأبين لمن لا يعرفني نهجي الذي أسير فيه معلنًا بلا جمجمة ولا استخفاء، فمن شاء أن يلوم بعد ذلك فلْيَلُمْ ما أحبَّ اللوم، فإني مؤديها على النهج الذي لا تزلُّ بي فيه مداهنةٌ أو تلويح، ولا تحبس خطواتي فيه مخافةٌ أو تهديد أو مناجاة بالإثم والعدوان.
أما صحيفة الأهرام التي مكَّنت لهذا الدعيِّ، وهيأت لهذا الداعية الجديد أن يتصرف في بعض صفحاتها بنفسه وببعض شيعته تصرُّفَ المالك، فإني لا أزال أحمل فِعلها على أحسنِ محملٍ أطيقه، وألتمس لها العذر بعد العذر؛ لظني أنها وقعتْ في شَرَكٍ لم تَدرِ كيف تخلص منه، وعسى أن تجد هي الطريق إلى الخلاص باليقظة والتنبُّه، وبحسن الرعاية لمصلحة الأمم التي تعدها أولَ صحيفة تعبِّر عن أهدافها، وتعمل مخلصة جاهدة في سبيل الخير، وعسى أن تجد لنفسها مخرجًا ينجيها من التهمة، وينقذ قراءها الذين استقرَّت في قلوبهم الثقةُ بأمانتها وصدقها، من أن تكون مرتعًا قريبًا سهلاً، ومنبرًا عالي الصوت شديد الدويّ لهذا الداعية وأشياعه، حيث يتخذها وسيلةً لبلوغ أهدافه وأهداف مَن يحركه مِن حيث لا تدري.
ومع كل ذلك، سوف يأتي في غضون هذه المقالات بيانٌ شافٍ عن كل الأخطار التي تهدد كيان هذه الأمم، فعسى أن تجد فيها صحيفة الأهرام مقنعًا ترضى عنه، إن لم تكن قد وجدتْ فيما سلف ما يوجب عليها أن تبرأ مما تجب البراءة منه.
أما الآن، وقد قضيت نحبي من البيان عن نفسي ومنهجي، فإني عائدٌ إلى ما كنت فيه من تاريخ قضية الدعوة إلى العامية واستبدالها بالفصحى، وإلى موضع هذا الدعي من تاريخها، وإلى ما يحيط اليومَ بهذه القضية، وإلى الآثار الشنيعة المترتبة عليها، وأحب مرة أخرى - وما أكثرَ ما أحبُّ! - أن يكون القارئ متنبِّهًا غاية التنبه؛ لأني لا أكتب هذا التاريخ المتشعب المتداخل؛ للتسلي بالألفاظ أمضغها (كما يتسلى الفارغون على المقاهي بالحديث وقزقزة اللب)؛ بل أكتبه باذلاً أقصى الجهد؛ ليفتح كلُّ امرئ عينيه على أكبر الجرائم التي ارتُكبت، والتي لا تزال تُرتكب، بأخبث الوسائل وأخفاها وأفتكها، في غمرة الحديث عن النهضة والتطور، وعن الأدب والفن، وفي فترة من أشد الفترات خطرًا على مستقبل الحياة في الأمم العربية، من حيث هي أمة واحدة، ثم على مستقبل سائر الأمم الإسلامية، من حيث هي الصديق الطبيعي للعالم العربي، ومن حيث هي الدرع التي تلقَّتْ ضربات المعاول الأولى بيد الاستعمار الغربي، ولا تزال تتلقاها، ومن حيث هي الذخيرة الباقيةُ صداقتُها وعونُها لنا غدًا، برغم كل ما أدَّت إليه دسائسُ الاستعمار وصنائعه وعملائه في بلادنا وبلادهم.
وإذا كنتُ قد عرضت في مقالتي السالفة أولية قضية اللغة العامية والدعوة إلى استبدالها بالفصحى، منذ عهد "سبيتا" الألماني سنة 1880م، إلى القاضي "ولمور" الإنجليزي ومحرر المقتطف في سنة 1901، فإني في الحقيقة قد انتزعت هذا الجزء انتزاعًا من حركة متكاملة، قديمة العهد، متشعبة العوامل، متداخلة الآثار، فعلتُ ذلك؛ لأني رأيتُني لو بدأت عرض الصورة من جميع نواحيها وأبعادها في مقالة أو مقالتين، فكأني أُريغُ اختصار قصة كاملة تستغرق آلاف الصفحات، في بضع عشرة صفحة من مجلة "الرسالة"، وهذا أمر لا يكاد يتم لأحد إلا بإخلالٍ شديد في سياق القصة، ولكن كان لا بد مما ليس منه بد، وسأحاول الآن محاولة أخرى مخوفة يتهددها الإيجازُ بالغموض، ولكني سأحاول مرغمًا، حتى يتسنَّى لي أن أربط هذه القضية بأصولها القديمة، باذلاً في البيان غايةَ الجهد؛ إبراءً لذمتي في إتمام الصورة، وتنبيهًا لكل غافل عن الخطر المقبل، وهو خطر ساحق يسحق تاريخه ومصيره، فإذا قصرتُ فذلك المعهود من العجز، وإذا شارفتُ حد الإبانة، فبتوفيق الله وحده وتسديده، وإن كنت لا أدري على التحقيق من أين أبدأ؟ أمن التاريخ البعيد، أم من التاريخ القريب؟
وفي هذه الحيرة، أراه حسنًا من الحسن أن أطوي التاريخ الطويل في كلمات موجزة دالة على مساربه، وأسوق بعض الإيضاح في خلال ذلك؛ حتى تتصل الأجزاء وتلتقي عند عهد محمد علي في سنة 1826م وما بعدها، وأسأل القارئ ألاَّ يملَّ؛ فإن الملل من كواذب الأخلاق، كما قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه.
ففي عصر النهضة الأوربية الأخيرة، كان هناك عالَمان كبيران: العالم الأوربي المسيحي، والعالم العربي الإسلامي، كان الأول قد ساور أول الشباب، حين انطوى دهرًا على نفسه، يدرس ما حمل إليه الحاملون من تراث العرب والمسلمين في العلم والأدب، وذلك بعد ارتداده إلى دياره منذ آخر حرب صليبية، وبعد ظهور الدولة العثمانية المسلمة التي غزتْ أرضه ودياره وتوغَّلتْ فيها، حتى تركتْ أصداء التكبير والتهليل تَصْدَعُ الجبال في قلب القارة الأوربية ، وكان الآخر قد أغفى إغفاءة في أعقاب دورة هائلة من دورات الحضارة، بعد أن سارتْ كتائبُه قرونًا طوالاً تطوف بحضارة الإسلام من الشمال البعيد إلى الجنوب القصي، ومن الشرق النازح إلى الغرب الشاسع.
وفي هذه الفترة كان الأول متحفزًا لا يهدأ، وكان الآخر مستهينًا مستنيمًا لا يبالي، كان الأول طموحًا نزَّاعًا إلى الآفاق البعيدة، وكان الآخر قانعًا آمنًا في ظل بنيان مرصوص، ظنه لا ينفذ فيه شيء.
كانت قناعة ثانيهما بقوَّته وماضية وتجارِبه، وأمنه في قلاعه وحصونه، وغفلته عمَّا جرى من وراء أسواره - إغراءً للأول بالإقدام على مباغتته وافتراسه، ولكن كانت تجارب الحروب الصليبية القديمة، وحروب آل عثمان من الترك، قد دلَّتْ دلالة قاطعة على أن مواجهة العالم الإسلامي بالانقضاض المسلَّح، لا تُجدي إلا انبعاثَ قوة متماسكة شديدة البأس والخطر، خليقة أن تسترد شبابها، مهما كان في كيانها من العيوب، وسرعان ما تلمّ شعثها إلى معركة فاصلة كسائر المعارك الأولى، التي ردَّت غزاة الصليبية على أعقابهم.
فكان من الحكمة إذًا تجنُّب المواجهة، وكان من حسن التدبير واتقاء العواقب أن تدور هذه القوة الجديدة الأوربية، من حول العالم الإسلامي، تتنقَّصه من أطرافه البعيدة بمهارة وحذر؛ حتى لا يرتاع قلبُ هذا العالم الغافل، فينفض الترابَ عن ثيابه، ويمسح النوم عن وجهه، ودبَّتْ أوربة دبيبًا حول هذا العالم، وجعلت تطوق شواطئ القارة الإفريقية من الغرب إلى أن بلغت شواطئ الهند، طوقتْه يومئذٍ بطوق من الثغور تحتلها، ثم تنفذ من كل ثغر إلى بدن العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا، على حذر شديد، وبلا ضجيج يزعج، نعم كان هذا غزوًا، ولكنه غزو خفي الوطء، بعيد المرمى، طويل الأجل، لم يكن غزوًا بالمعنى الذي كان الناس يعهدونه يومئذٍ، أو الذي نعهده إلى اليوم، لم يكن جيوشًا وجحافلَ لها صليلٌ يُقَعقع، ونَقْعٌ يثور، فتدك في زحفها الحصون حصنًا حصنًا، حتى تفرغ من الأرض كلها في شهر أو شهرين، أو عام أو عامين، كان غزوًا أقل ما فيه نكاية هو "الجيوش"، وأبلغه افتراسًا هو "التجارة"، وأفتكه بالإنسان هو "التبشير"، وهذه الصورة لا يكاد يخطئها من كان له أدنى إلمام بتاريخ الغزو الأوربي المسيحي للعالم الإسلامي.
وليس يعنينا هنا أن نتتبع تاريخ نكاية "الجيوش"، وافتراس "التجارة"؛ بل الذي يعنينا هو "التبشير"، وفهم طبيعة "التبشير" وعمله أمرٌ لا بد منه لكل إنسان رأى بلاده نَهْبًا ممزقًا، وأشلاء مقطعة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أبعد الغرب إلى أبعد الشرق؛ لأنه أحد كتائب الغزو الجديد وأفتكها بالناس، ولستُ هنا بصدد سرد تاريخ "التبشير" منذ قام "البارون دي ويتز" في سنة 1664 يدعو إلى تأسيس مدرسة جامعة، تكون قاعدة لتعليم التبشير المسيحي، وتعلم فيها لغات الشرق لمن يناط بهم أمر التبشير؛ فهذا يحتاج إلى دراسة مطولة، وحسب المرء أن يرجع إلى ما ألَّفه المبشرون أنفسهم من كتب تاريخ التبشير؛ ليعلم المناهج التي سار فيها حتى هذا اليوم، ولكن ليس يحل لأحد ممن يتعاطى النظر في أمور الناس في البلاد التي وقعت نهبًا للغزو الأوربي - أن يغفل أمر "التبشير"، ولا أن يتجاهل آثاره، ولا أن يغضي الطرف عن وسائله؛ لأنه هو في الحقيقة أقوى العوامل التي مكَّنت للاستعمار في بلادنا، وجعلتنا في الحال التي نحن عليها من الضعف والتفكك، والجهل بالأسباب الصحيحة التي تهيئ لنا مستقبلاً كريمًا شريفًا في هذا العالم، وسأحاول أن أوضح الأمر ما استطعت في هذه العجالة التي لا تشفي غليلاً.
فمن تمام الجهل أن يظن المرء أن معنى "التبشير" هو اقتصار فئة من الرهبان أو القسوس بالدعوة إلى دينهم، من حيث هو عقيدة يسمعها المرء فيرضاها أو ينكرها، فهذا أمر باطلٌ أشدَّ البطلان، لا من حيث الواقع فحسب؛ بل من حيث شرَح "المبشرون" أنفسهم معنى "التبشير" عندهم، وهم الممارسون له، وهم لذلك أدري به، وأشد بطلانًا أن يتصور امرؤ أن "التبشير بمعزل عن الغزو الحربي، والغزو الاقتصادي، والغزو الفكري والسياسي، وعن محاولة الجنس الأوربي المسيحي أن يُخضع الأممَ لسيطرةٍ تدوم ما دامت له حضارة، وأشد بطلانًا منهما جميعًا أن يخطر ببال أحد أن "التبشير" قد غاب عن كثير من الدعوات التي قام أصحابها ينادون بضروب من الإصلاح (!) في بلاد العرب، وفي بلاد الإسلام، وفي غيرهما من البلاد، وأنه لم يضع فيهما إصبعه ليحول معنى "الإصلاح" إلى معنى من التدمير والهدم والتحطيم.
ومن صَدَقَ النية، واطَّلع على كتب المبشرين أنفسهم، عرف أن أكثر الحركات السياسية والاجتماعية قد لُوثتْ بمكره الخفي، وأنه لم يغبْ عن شيء من الحركات الوطنية أو القومية، أو الثقافية أو الأدبية، أو ما شئت؛ بل كان من ورائها عاملاً يقظًا، شديد الخفاء، بليغ الأثر، يتزيَّا بكل زي، على اختلاف الأمور، لابسًا لكل حالةٍ لَبُوسَها، ومرسلاً فيها أعوانه، الذين قام على أمرهم دهرًا طويلاً؛ حتى لا ينكشف أمرهم للغافلين عن دسائسه المدروسة المخططة الطويلة الأجل.
وكان أخفى طريق عرفه المبشرون، وأقرَّتْه سياسة الدول الأوربية الغازية جميعًا - هو "طريق التعليم"؛ لأن حاجة الناس إلى العلم لا تنقطع، وبخاصة في زمن اليقظة بعد الغفوة، هذه واحدة، والأخرى أن التعليم يضمن تنشئة أجيال قد صُبغوا على أيدي معلميهم بالصبغة التي يريدها الدهاة من أساتذتهم، وهو أخطر عامل في توجيه أفكار الصغار إلى الجهة التي يريدها المعلِّم، فينشأ الطفل ويكبر حتى يصير رجلاً، فلا يحس في نفسه أنه قد طبع طبعًا جديدًا، يراد به استبقاء سيطرة الغازي عليه وعلى بلاده، وتدمير أمَّته بمسخه هو وأقرانه إلى عبيد يذلِّلون الطريق لأقدام السادة الطغاة، من حيث لا يدري أنه عبدٌ مسخَّر.
وإليك فقراتٍ دالةً من كلام رجل من رؤوس المبشرين، تغني عن الإكثار، هو المسيو شاتليه، يقول في سنة 1911:
"إن إرساليات التبشير الدينية، التي لديها أموال وفيرة، وتدار أعمالُها بتدبير وحكمة، تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية، من حيث إنها تثبت الأفكار الأوربية"، ثم يقول: "ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية، تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس معتقديها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرَّب مع اللغات الأوربية، فبنشرها اللغات الإنكليزية والألمانية والهولندية والفرنسية، يتحكك الإسلام بصحف أوربا، وتتمهد السُّبُل لتقدم إسلامي مادي (تأمل هذا جيدًا)، وتقضي إرساليات التبشير لُبَانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية، التي لم تحفظ كيانها إلا بعزلتها وانفرادها" تأمل!
هذا كلام دارس خبير، ينبغي أن تقرأه لفظًا لفظًا؛ لأنه تخطيط شامل، في ألفاظ قليلة، ثم قال أيضًا ما يعين على كشف الأهداف والأغراض ببيان شافٍ؛ إذ يقول:
"إنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث خطتهم في "الهدم"، فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم للجهود التي تُبذل في سبيل التربية النصرانية، والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام (تأمل!) سيمهد السبل لأعمال المدنية الأوربية؛ إذ من المحقق أن الإسلام يضمحلُّ من الوجهة السياسية، ولن يمضي غيرُ زمن قصير، حتى يكون الإسلام في حكم مدينة محاطة بالأسلاك الأوربية".
وتستطيع أن تجد فائدة عظيمة في تتبع تاريخ التعليم الأجنبي في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، في رسالة كتبها الأستاذ جرجس سلامة، وإن كان قد نظر إلى هذا الموضوع من غير الوجه الذي ننظر إليه منه، ولكنه أقرَّ في مقدمته أن هذا التعليم قد بدأ في مصر لأغراض دينية بحتة، وأنه اتَّجه نحو الاستقلال والعزلة: "حتى أصبح التعليم الأجنبي دولة داخل الدولة، يوجِّه النشء الوجهة التي يراها، ويصبغهم بالصبغة التي يرغبها، دون إشراف فعليٍّ من الدولة عليه"، ويقول أيضًا: "بل بلغ الأمر إلى حد أن اشتملت بعض الكتب المستعملة على معلومات خاطئة مضلِّلة عن مصر ذاتها، وكان كل ذلك يدرس لأبنائنا، مع انعدام وجود أي توجيه قومي يوجِّه شبابنا الوجهة الوطنية الصحيحة"، وقال أيضًا: "وزاد من خطورة كل ذلك أن جميع المدارس الأجنبية دون استثناء، قد أسهمت بنصيب كبير في إضعاف اللغة العربية، فهي تلقي في خضم الحياة المصرية كل عام مَن ينظرون إلى غيرهم من طبقات المتعلمين في المدارس الحكومية الوطنية نظرةً متعالية، وينظرون إلى اللغة العربية نفس النظرة".
وقد آثرتُ أن أنقل هذا كله هنا؛ لأنها نظرة مسيحي دارس إلى هذا التعليم الأجنبي، وهو غير مكلَّف أن ينظر إليه من حيث ننظر نحن، ولكن سياق دراسته مفضٍ إلى مثل الذي يفضي إليه المسلم، من حيث استخدام هذا التعليم أداةً لصبغ أبناء الناس بالصبغة التي يريدها هؤلاء الدعاة، ويوجههم إلى وجهة غير صحيحة، في الوطنية أو في غيرها من شؤون الدين والدنيا، وهذا كافٍ - بحمد الله - في إثبات ما نريد من استغلال التعليم لبث أفكار مدمرة في المتعلمين على أيدي هؤلاء المبشرين.
فهذا وما بيَّنتُه في مقالتي السالفة، يدل على شدة عداوة المبشرين ومدارسهم وتعليمهم للغة العرب، وهذا أمر ظاهر مفهوم، وقد ذكرت في الكلمة السالفة مقالة "وليم جيفورد بلجراف": "متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أن نرى العربيَّ يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يُبعدْه عنها إلا محمدٌ وكتابه"، ومفهوم أيضًا أن "الحضارة" التي يعنيها حضرة الفاضل هي المسيحية ذاتها، ومفهوم أيضًا أن القرآن لا يتوارى حتى تتوارى لغتُه، وزاد القسيس "زويمر" هذا الأمرَ وضوحًا، وبيَّن أن اللغة العربية هي الرباط الوثيق، الذي يجمع ملايين المسلمين على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، وذلك حيث يقول في سنة 1906 أو قبلها: "إنه لم يسبق وجود عقيدة مبنيَّة على التوحيد أعظم من عقيدة الدِّين الإسلامي، الذي اقتحم قارتي آسيا وإفريقية الواسعتين، وبثَّ في مائتي مليون من البشر (وهذا تعداد أقل من الحقيقة يومئذٍ بكثير كما تعلم) عقائدَه وشرائعه وتقاليده، وأحكم عروة ارتباطهم باللغة العربية".
فليس مفهومًا بعد الذي بيَّنتُه من طبيعة التبشير بغاية الإيجاز، وما دللتُ عليه من أعماله في التعليم، ومن غاياته، أن يكون بمعزل عن قضية هدم اللغة العربية الفصحى، التي هي لغة القرآن، وعن جعل اللغات الأوربية مقدَّمةً عند المثقفين على لغة الآباء والأجداد، ولكن إلى أن غزا نابليون مصر في سنة (1798م) لم يكن للمبشرين أثرٌ يُذكر في التأثير على أبناء البلاد العربية، فلما تولى محمد علي أمرَ مصر، وزيَّنتْ له نفسُه أن يستقل بها، وأغراه طموحُه أن يجعلها تناصي دار الخلافة في تركيا، انثال عليه قناصل الدول؛ ليشدُّوا أزره، وليحطِّموا بمعاول جيشه صرحَ الخلافة العثمانية، فعاونوه على إنشاء المدارس، واستقدم لها المعلمين، وأرسَلَ البعثات إلى أوربا منذ سنة 1826.
وكان أول الرأي لمن شهد هذه النهضةَ المفاجئة الجديدة، أن تُترجم كُتُبُ العلم الأوربي إلى العربية، وأن يؤلَّف بالعربية في هذه العلوم؛ حتى يُستغنَى بعد قليل عن استجلاب الأساتذة الأوربيين للمدارس الثانوية والعالية، وهذا ما كاد يحدث، فإن كثيرًا من الكتب قد ترجم يومئذٍ إلى العربية في أنواع العلوم، كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية، وطبع أيضًا بمصر طباعة جيدة، ولكن يظهر أن القناصل خوَّفوا هذا الطاغيةَ الجريء عُقبى تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر، ينشرها بلسانهم، وزيَّنوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج.
فانتهى الأمر بأن حُبست هذه الكتب في مخازن القلعة، وحِيلَ بين اللسان العربي ومتابعة العلم في ذلك العهد البعيد، فكانت أول فجوة حدثتْ بين التعليم ولغة التعليم، وصار المتخرج في البعثات يُحسن لغة البلاد التي تعلّم بها، ويحسن التعبير بها في العلم الذي درسه، ثم لا يحسن مِثلَه في لغته التي ينتمي نسبُه إليها، وبعد قليل بدأت طلائع إرساليات التبشير تفد إلى مصر، وتنشئ المدارس، وتحدث في بيوت المسلمين وغير المسلمين صدعًا، كان يصعب اتقاؤه يومئذٍ؛ لقلة المتنبهين إليه.
وظل الأمر يستشري ويزداد سوءًا في أواخر عهد محمد علي، إلى أن هبَّت رياح أوشكت أن توقظ الناس إلى نهضة صحيحة، تبدأ من حيث ينبغي البدء، وذلك عندما حدث ما دعا إلى إعادة فتح المدارس فيما بين سنة 1863 وسنة 1879، وما دعا إلى حركة إحياء بين أفراد أفذاذ من علماء الأزهر، وما دعا إلى إنشاء مدرسة دار العلوم، وابتدأت طلائع النهضة الصحيحة بما أشرت إليه من ظهور نابغة البيان في ذلك الزمان، محمود سامي البارودي، الذي ردَّ الشعرَ العربي إلى شبابٍ فقَدَه في عصور متتابعة، قعدتْ بالهمم فضربتها بالعجز والتسليم بأنها لا تطيق أن تبلغ حيث بلغ الأوائل، فجاء هذا الرجل آيةً على إمكان ذلك، وكان ذلك في حوالي سنة 1870، وبدأ موكب النهضة يسير، ويتكاثر في مسيره، وكاد الأمر يفلت، وإذا أفلت الأمر من أيدي الغزاة يومئذٍ، ونجت مصر في سنة 1882 من طغيان أسرة محمد علي وفسادها، ومن احتلال الإنجليز بهزيمة عرابي، لتغيَّر تاريخ هذه المنطقة، ولاحتفل السيلُ فجرَف هذه المكايد الصغار التي كانت تُكَادُ يومئذٍ، ولطمست الفجوة التي كانت قد انشقَّتْ بين التعليم ولغة التعليم.
وفي هذه الفترة ما بين 1863 إلى 1882، ظهرت بوادر تأسيس الجمعيات الكبرى للتبشير في مصر وسورية وغيرها من البلدان الإسلامية، وكان ظاهرًا أن هذه الفورة متعلِّقة بالتكوين السياسي الذي يراد بقلب العالم الإسلامي؛ ولذلك نشط التبشير في أماكنَ متفرقةٍ من العالم الإسلامي، وكان الهدف الأكبر هو مصر والشام، وزاد عدد الرجال المبشرين، وأكثرهم ليسوا من القسوس، كما يعلم ذلك كلُّ متتبع لحركات التبشير.
والظاهر أن هذه الحملة الصليبية الجديدة كانت قد هُيِّئت لها خطط جديدة، أوجبها طول الاحتكاك داخل هذه البلاد بأهلها وسكانها وطوائفها، وتجديد الفهم لحقيقتها وما هو كائن فيها، فلستُ أجده عجيبًا إذًا أن يتَّفق في عام واحد تقريبًا (سنة 1880، وسنة 1881) ظهور كتاب "سبيتا" الداعي إلى استبدال العامية بالفصحى، وظهور مقالة "المقتطف" الداعية إلى مثل ذلك، وأن تكون حججهما واحدةً في صعوبة الفصحى، وفي بُعد لغة الحديث عنها كبُعد الإيطالية من اللاتينية، وأن يتشابه المكر في الموضعين بقياس فاسد متخالف الأجزاء.
لست أجد هذا اتفاقًا عجيبًا من ألماني أعجمي اللسان، مقيم في دار الكتب المصرية، وعربي اللسان مقيم في بيروت، حيث أكبر مؤسسة تبشيرية أنشئت سنة 1865 بأموال الإنجليز والأمريكيين، وتخرج هو على أساطين التبشير فيها، وهي "الكلية السورية الإنجيلية"، المعروفة اليوم باسم "الجامعة الأمريكية".
وهذا دليل ظاهر من حال الرجلين، وفي كلام كل منهما دليل ظاهر وباطن أنه حق ويقين، أنهما إنما تلقَّيا إشارة البدء في الشام ومصر من جماعات التبشير أو مؤتمراتهم الأخيرة، وأن هذا الذي كتَبَا من الرأي المتواطئ في معانيه ودلالاته وتشبيهاته، يدل على أن الأمر بتفاصيله كان مبيَّتًا مدروسًا، قد طال الإعداد له، وكثر تساؤل المتشاعرين به: متى يحين حينه؟ كما دل على ذلك أيضًا كلام محرر المقتطف سنة 1881، وهو مقيم في بيروت، وسنة 1901، وهو مقيم في مصر، ودل ما كان من أمرهما على أنه لم يكن يراد إثارة هذه الفتنة بمرةٍ واحدة علانية في كل مكان؛ خوفًا من أن تنشأ قوة تقضي على الأمر كله في مهده؛ بل كان يراد أن تكون في أضيق الحدود.
وخبر ذلك أن "ولهلم سبيتا" كتب كتابه بالألمانية في مصر، ومَن يعرفها من المصريين قليلٌ من الدارسين في البعثات، وبعضُ أصحاب الثروة والسلطان، وإذًا فالغاية المرجوة منه محدودة بأضيق الحدود، وفي نطاق عدد قليل، كأنه هو وحده المخاطب عند صدور الكتاب بما في الكتاب، وهذا أفْعلُ؛ لأن الذي يقرؤه يعدُّ نفسَه في الناس كأنه وقع على خبيءٍ مكنوز؛ فهو لا يهدأ حتى يبوحَ به تلميحًا وتعريضًا إذا خاف التصريح، وعن هذا الطريق يستطيع "سبيتا" أن يعرف أثر مقالته التي ساقها في مقدمته مجازفًا كما قال، وراحمًا للشباب مما يعانون من تعلم الفصحى، ومتحرقًا على أن الأدب الحقيقي لا ينمو بالتزام الكتابة بالعربية الكلاسيكية القديمة، وما شئتَ بعدُ من عواطف الحب التي يعالجها هذا المبشر الألماني للشعب المصري!
وأما "المقتطف"، فقد وقفت فيه على عجيبة مذهلة لم أرَ لها مثيلاً فيما عرفت من المجلات! وذلك أني فوجئت بأن المجلد السادس منه، وهو مجلد السنة السادسة من حزيران سنة 1881، طبع من كل عدد منه طبعتان، إحداهما خالية من هذه المقالات التي بدأها في تشرين الثاني 1881 بعنوان: "اللغة والنجاح"، ورد خليل اليازجي عليه في كانون الأول 1881، وتعقيب المتنكر تحت اسم "الممكن" على محرر المقتطف وعلى رد اليازجي، وتأييده اتِّخاذ العامية لغةً للكتابة، في كانون الثاني 1882، وما نشر في عدد شباط 1882 باسم الجمعية الأدبية الدمشقية، وما كتبه أسعد داغر، ثم رد "الممكن" عليهم في آذار 1882، ثم متابعات أخرى للموضوع في نيسان 1882 وما بعده، فهذا كله وأمثاله لا وجود له في المجلد المختصر، وعدد أوراقه 328 صفحة، وموجود في المجلد المطول، وعدد أوراقه 760 صفحة.
فهل لهذا الأمر الغريب علاقة بتوزيع المطول في مكان دون مكان، وقصر توزيع المختصر على مكان بعينه؟ هذا والله أمر يحيرني! وقد تابعت ما كتب فيه، فلم أجد أحدًا من أهل مصر شارك في معالجة هذه القضية إذ ذاك، فكأن هذه المجلة كانت مجهولة هنا، معروفة في بيروت ونواحيها، أو كان المختصر هو الذي يرسل إليها دون المطول.
فمجيء هذه الدعوة في مصر وفي الشام على هاتين الصورتين المتباينتين في الظاهر، لم يكن يراد به إلا إحداث صدع في النهضة، وبث بلبلة، واستحياء فتنة، إلا تكن جهرًا في كل مكان، فهمسًا في مكان دون مكان، لا لليوم الحاضر؛ بل لغد سوف يأتي فلا يكون همس، وعسى أن يوجد في مصر من أنفس المسلمين، مَن توافق هذه المقالةُ هواه، فيتولى هو إذاعتها بين الناس، ويكون ذلك أحسن تحقيق لوصية القس "زويمر" لمَن خرَّجهم من المبشرين؛ إذ قال لهم: "تبشير المسلمين يجب أن يكون بلسان رسول من أنفسهم، ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحدُ أبنائها" (وبيِّنٌ أن ما ذكره لويس عوض في تجربته في شأن العامية أيضًا، والتي نقلتُها آنفًا من بلوتولند، إذ قال: إنه سكت مؤْثرًا أن يتولى الدفاعَ عن رأيه مسلمٌ لا مجال للطعن في نزاهته - إنما هو قولٌ متوارث، لقَّنه إياه بعضُ مَن تولى تدريبه في "الخلوة المشهودة بين أشجار الدردار عند الشلال بكامبردج"، أو كما قال).
وعلى الحالين جميعًا، فظاهر من السياق ارتباط أول داعيتين إلى استبدال العامية بالفصحى، ارتباطًا وثيقًا بوسائل التبشير وتوجيهاته، وأغراضه وأعماله ومراميه، وليس من جاء بعد هذين - وهم "فولرس" الألماني (1890)، والإنجليزيان "ويلككس" (1893)، و"ولمور" (1901) - بأوهن منهما رباطًا بالتبشير؛ بل لعل العكس هو الصحيح؛ لأنهم فضلاً عن تظاهر الأدلة على وثيق ارتباطهم به، فإنهم إنما جاؤوا أيضًا في زمن الاحتلال الإنجليزي، الذي كان التبشير مقدِّمةً له أولاً، ثم محققًا بعدُ لسياسته، وناشرًا لمكايده، وساعيًا في تثبيت قواعده، وذلك بأعظم وسيلة يملكها التبشير، وهي التعليم، كما أسلفنا من صفته.
وإذا شئتَ أن تعلم مقدار تكافل التبشير والسياسة وتعاونهما على إذلال الأمم والرجال وتحقيرهم، وإيذائهم بأصفق ما يتسنَّى لإنسانٍ من الوَقاحة، وغِلَظ الوجه، وجَلافة التركيب الأخلاقي، وبذاءة النفس الملوثة في داخلها بالحقد والاحتراق - فانظر كيف جاء "التبشير" تحت راية الاحتلال الإنجليزي ليعقد مؤتمرًا في القاهرة، فيأبى على "زويمر" القس المبشر حُسْنُ خلقه، وتمامُ ديانته، ووَرَعُ نفسه، إلا أن يكون انعقاد المؤتمر في بيت زعيم الثورة وقائد النهضة، "أحمد عرابي" المسلم العربي، فيفتتح "زويمر" برئاسته هذا المؤتمر في 4 إبريل سنة 1906 في القاهرة، في بيت عرابي، في باب اللوق، والرجل يومئذٍ عاد من منفاه، وحُرِمَ مالَه ودارَه، فهو مقيم ببيت أولاده بشارع خيرت.
وحسبك أن تعلم أن أحد هؤلاء المؤتمرين قد وقف تحت سقف هذا البيت، يعرض اقتراحًا بإنشاء مدرسة جامعة نصرانية، تتولى كل الكنائس المسيحية الإنفاقَ عليها؛ للتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة[2]، ثم ختم كلامه بهذه العبارة:
"ربما كانت العزة الإلهية قد دعتْنا إلى اختيار مصر مركزَ عمل لنا، لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير الممالك الإسلامية".
لم يكن مؤتمرًا للتبشير؛ بل كان مؤتمرًا لانتقامٍ خسيس، لا يصدر عن قلب سليم أبدًا، وكذلك كان فعلهم في عشرات من الحوادث، وتلك كانت آدابهم، فكيف يلام تلميذٌ لهم إذا نشر في مناسبة الإسراء والمعراج - بما يتوارث من هذه الأخلاق - كلامًا لا يليق أن يقال، وبأسلوب صاحبنا الذي ظن العزة الإلهية قد دعتْه إلى مصر؟ يا سبحان الله! وإلى قريب حتى نفرغ من أخطار هذه القضية.
ـــــــــــــــــ
[1] لا يدري المرء هل يأسف أم ييئَس؛ لأن هذا المتدسس إلى جريدة الأهرام، لا يزال يدير المسرح الذي ينفث الخطر من جميع نواحيه، على يده وعلى يد شيعته، بعد مضي ست سنوات على كتابة هذا النذير (سنة 1971).
[2] هذه الدعوة تمخضت عن "الجامعة الأمريكية" بالقاهرة.
المصدر: الرسالة، الخميس 12 رمضان 1384هـ
موقع الألوكة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)