محمود محمد شاكر
أثار الأستاذ العباديُّ في (الثقافة) عدد (47) مشكلةً ابتغَى حلَّها، وذلك أنَّه وصف حِلية (أبي العباس أمير المؤمنين) أوَّل خلفاء بني العباس كما رواها المؤرِّخون من أنَّه كان: "ذا شعرة جعدة، طويلاً أبيضَ، أقنى الأنف، حسنَ الوجه واللحية"، وكان "شابًّا متصوِّنًا عفيفًا، حسنَ المعاشرة، كريمًا معطاءً"... إلى نهاية ذلك من كريمات الخِصال، ثم استبعدَ أن يكونَ هذا الإنسان الرقيق أهلاً لتلك الصورةِ البشعة الطاغية التي تخلعها عليه معاني هذا الحرف (السفَّاح) من الجريمة، وسَفْك الدَّمِ، والرغبة في ذلك، والمبالغة فيه.
واحتفل الأستاذُ للحوادث التاريخيَّة، فلم يجد فيها ما يسوِّغ أن يكون (أبو العباس أمير المؤمنين) سفَّاحًا سفَّاكًا للدِّماء، وزاد أنَّ ثقات المؤرِّخين كالطبري والدِّينَورِيِّ لم يذكروه إلاَّ مجرَّدًا من هذه الصفة، ثم رجَّح بدليل بيانيٍّ جيِّد أنَّ السفَّاح محمولٌ هنا على الأصل اللُّغوي؛ أي: الكريم المعطاء الذي يُتلف الأموال، ولا يبخل بها، ولكن الأستاذ (أحمد أمين) ردَّ عليه بعضَ أدلته في العدد (49) فردَّها الأستاذ العباديُّ عليه في العدد (50)، وهكذا إلى العدد (52).
وأنا قد أعجبتُ كلَّ الإعجاب ببحث الأستاذ العبادي، وإن كنتُ أخالفه كلَّ المخالفة، وذلك لأنَّه مبنيٌّ على منطق تاريخي جيِّد، ولأنَّه أراد أن يفرِّق فرقًا جيِّدًا بين كتب التاريخ وكتب الأدب القديمة من حيثُ الحُجَّةُ في برهانات التاريخ، فإنَّا نجد كتبًا من أعظم كتب الأدب تحمل على الخُلفاءِ من غثِّ الأخلاق ما تناقضه سِيرُ هؤلاء الخلفاء، كالذي يروون عن الرشيد - وهو بالمنزلة مِن الشَّرَف والعِلم والسياسة، وطول الانبعاث للغزو والحجِّ - من معاقَرةِ الخَمْر والملاهي والاطلاع على الحرم، واستباحة الأعراض، وغير ذلك ممَّا لا يمكن أن يصحَّ بوجه من الوجوه.
هذا؛ وإنِّي أخالف الأستاذ العبادي؛ فإنَّه حين ردَّه الأستاذ (أحمد أمين) رجع عن تفسيره لفظ (السفَّاح) بالكرم والسَّخاء لغير عِلَّة ظاهرة، وأصرَّ على أنَّ (أبا العباس أمير المؤمنين) لم يُلقَّب (بالسفَّاح) البتة في حياته، ولا ذُكِر ذلك عند أئمَّة المؤرِّخين، وأصرَّ مع ذلك أيضًا على أنَّ صفاتِ أبي العبَّاس وحليته تنفي عنه أن يكون سفَّاكًا للدِّماء، ولا كل هذا، فإنَّ هذه الصفاتِ لم يُروَ لنا إلاَّ أقلُّها، حتى يمكن أن نجعلها أصلاً يُستشفُّ خُلُق أبي العباس من ورائها، وإنَّ الرِّقة والدعة والجمال ولِين الخُلق تُخفي وراءَها أحيانًا قسوةً لا تُدانيها قسوة، كالذي يكون في النِّساء، فإنهنَّ قد عُرِفنَ بين الناس بالرِّقة (وهنَّ أغلظُ أكبادًا من الإبل).
وإنَّ المرأةَ إذا ثارتْ لم يبلغ مبلغَها في القسوة (أقْعد) الوحوش في باب الوحشية، ومع ذلك فهي الزَّهْرة غِبُّ الندى، وهي النسيم في السَّحَر، وهي...
وكنت أحبُّ أن أستوفيَ هنا القول في تحقيق هذه الصِّفة لأبي العباس أمير المؤمنين، ولكنِّي رأيتُ أنَّ الكلام قد جاوز حدَّه، وأنَّ الدليل يقتضيني إثباتَ كثير مما يُخِلُّ تركُه بالفائدة، فموعدنا الكلمة التالية - إن شاء الله.
أبو العباس السفاح
كنتُ أحب أن أستوعبَ في هذا التعليق كلَّ الرأي الذي عرض لي في أمر أبي العبَّاس السفَّاح أمير المؤمنين، ولكنِّي رأيتُه قد خرج عن أن يكون من مادَّة هذا الباب، فلذلك اقتصرتُ على أشياء أرجو أن تُعين الأستاذ العباديَّ في تحقيقه الذي بدأه، وعسى أن يكونَ في هذا القول بعضُ الصواب الذي يسعى إليه.
فمِن ذلك أنَّ أبا العباس السفَّاح، وأبا جعفر المنصور أَخوَان وَلِيَا الخلافة العباسية لأوَّل أمرها، وكان أبو العباس أصغرَ من المنصور بعشر سنين، وأنَّ اسم أبي العباس وأبي جعفر في نسبهما هو (عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس)، فأبو العباس هو (عبدالله الأصغر)، وأبو جعفر هو (عبدالله الأكبر).
فإذا كان ذلك كذلك، وأبو جعفر قد لُقِّب بالمنصور، وأنَّ الذي لقَّبه بذلك أبوه فيما نعلم، فلا غَرْوَ أن يكون أبو العباس كذلك ملقبًّا، وأن يكون أبوه قد لقَّبه كما لَقَّب أخاه.
وإذا كان أبو العباس (عبدالله) هو الأصغر، فالتلقيب هو أولى به للتفريق بينه وبين أخيه أبي جعفر (عبدالله)، وهو الأكبرُ الذي وُلِد أولاً، وسُمِّي (عبدالله) من قبله، ويؤكِّد أمر هذا التقليب سيرورتُه بعدُ في خلفاء بني العباس جميعًا إلى انقضاء دولتِهم، فكأنَّه كان من (تقاليدهم) وتعاليمهم.
وأيضًا فإنَّه قد وردَ في الحديث عن أبي سعيد الخُدْريِّ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يخرج منَّا رجل في انقطاعٍ من الزَّمن، وظهورٍ من الفتن يقال له: (السفَّاح) يكون عطاؤه للماء حَثْيًا))، وأئمَّة الحديث لا يصرفون هذا الاسمَ إلى أبي العبَّاس، وإنَّما هو نبوءة كبقية النبوءات التي وردتْ في القرآن الكريم والحديث النبويِّ لا يُدرى تأويلها إلاَّ أن تكون، ولكنَّ الدعوة العباسية فيما يظهر قد جمعتْ بين هذا الحديث وأحاديث أُخر هي من باب النبوءات أيضًا، وجعلتْ منها حديثًا اتخذتْه في الدَّعوة إلى إقامة الخِلافة في بني العبَّاس، فكانوا يَروُون للناس عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- أنَّه قال: "والله لو لم يبقَ مِن الدنيا إلاَّ يوم، لأدال الله مِن بني أمية، ليكوننَّ منَّا السفَّاح والمنصور والمهدي"، وهم الخلفاء العباسيُّون الثلاثة على التتابع، ولا شكَّ في أنَّ هذا كان قبل قيام الدعوة بالفتح بزمن طويل، فلعلَّ الإمام "محمَّد بن علي" قد لَقَّب ولديه بهذين اللقَبَين تفرقةً بينهما، وتفاؤلاً بالذي يروون في أحاديثِ الدعوة العباسيَّة.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى اللَّقب إذًا ليس من (سفح الدم) - وهو بهذا المعنى مجاز مقصورٌ لغرضٍ بعينه - لكنَّه من الكَرَم والعطاء والبذل، كما ورد في الحديث الذي سُقْناه آنفًا من أنَّ (عطاء السفَّاح للمال حثْيًا)؛ لأنَّه لا يصحُّ في العقل أن يُلقِّب أحدٌ ولدَه بهذه المذمَّة القبيحة وهو يُنصِّبه للناس خليفة، وقد لُقِّب أخوه مِن قبل بالمنصور.
نعم، قد سَمَّت العرب في جاهليتها بالأسماء المنكَرة، ولكنَّ الإسلامَ جاء فحسم ذلك كلَّه، ولم يبقَ من التلقيب والتسمية بالمنكَر مِن الألفاظ شيءٌ في أكثرِ البادية العربية، فكيف في الحَضر، ثم في أعظم بيوت الحَضَر، وهو بيت العباس؟! وقد كان لهم في رسول الله أسوةٌ حسنة، فهو قد غيَّر أسماء كثيرٍ من الوافدين عليه من أصحابه (كزحم بن معبد) فسماه بشيرًا، وجميلة امرأة عمر بن الخطَّاب، وكان اسمها (عاصية)، وخلق كثير.
وعلى هذا الأصل نرى أنَّ الناس في صدر الإسلام سُمُّوا (السفاح)، فمنهم: السفَّاح بن مطر الشيباني، وهو ممَّن وُلِد في النِّصف الثاني من المائة الأولى للهجرة، وكان من أصحاب الحديث، والسفَّاح أخو أبي سلمة بن عبدالرحمن الزَّبيدي لأمِّه وهو من التابعين، وقد روى عن أبي هريرة، وغيرهما.
ولا شكَّ أنَّ التسمية هنا منصرفةٌ إلى المدحِ لا إلى الذَّم، فصِفة أبي العباس السفَّاح هي إلى العطاء والكرم، كما ذهب الأستاذ العباديُّ أولاً، ثم رجع حين تعقَّبه الأستاذ أحمد أمين.
أمَّا النص الذي نقله الأستاذ عن اليعقوبي من أنَّه قال: عبدالله بن علي الأصغر وهو السفَّاح، وهو عمُّ أبي العباس والمنصور، فإنَّ أصلَه منقول من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولادَ علي بن عبدالله بن عباس فقال: ((عبدالله بن علي الأكبر... وعبدالله بن علي الأصغر السفَّاح الذي خرج بالشام))، فهذا هو الأصل ولا يرى فيه إرادة التلقيب كالذي يرى من نصِّ اليعقوبي، وإنَّما هي صفة كالسفَّاك والقتَّال، نعم، وأنا لا أدري كيف ادَّعى الأستاذ العبادي أنَّه اشتهر بذلك، فانتقلتْ هذه الصِّفة إلى أبي العباس أمير المؤمنين، فإنَّ الطبري وأئمَّة المؤرِّخين قد ذكروا عبدالله بن علي عم أبي العباس وأبي جعفر في أكثر من خمسين موضعًا، ولم يُلقبْه أحدُهم بهذا اللَّقب، فكيف يمكن أن ندَّعي أنَّه اشتهر به، حتى كان مِن جرَّاء هذه الشهرة أنِ اختلط على الناس وعلى الأُدباء، وعلى فلان وفلان، كالجاحظ وابن قُتيبة، فوضعوا صفة (عبدالله بن عليٍّ) صفة (لعبدالله بن محمد) على قُرْب العهد؟! وكيف جاز أن يقعَ في ذلك الجاحظُ في روايته، وهو أدقُّ العلماء رواية، وهو الذي ردَّ أكثرَ رواية الهيثم وابن الكلبي وغيرهما من أصحاب الأخبار؟!
وخبره الذي رواه وذكر فيه السفَّاح في "البيان والتبيين" (1/93) أخبره به (إبراهيم بن السندي)، وقد قال فيه (1/326):
"وكان إبراهيم بن السِّندي يُحدِّثني عن هؤلاء بشيء هو خلافُ ما في كتب الهيثم بن عدي وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنَّه ليس مِن المؤلَّف المزوَّر، وكان عبدالله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمَّةٍ من الأمم، ومِن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأمَّا نصر فكان صاحبَ أخبار وأحاديث، وكان لا يَعدو حديثَ ابن الكلبي والهيثم، وأمَّا إبراهيم فإنَّه كان رجلاً لا نظيرَ له... وكان... وكان.... من رؤساء المتكلِّمين، وعالِمًا برِجال الدَّعوة، وكان أحفظَ الناس لِمَا سمع، وأقلَّهم نومًا، وأصبرَهم على السهر".
فرواية الجاحظ - فيما نرى - أقومُ من رواية غيرِه، وهي دليلٌ على صِحَّة الصِّفة التي وصف بها أبو العبَّاس أمير المؤمنين، والجاحظ قد أدْرك صدرَ الدولة العباسيَّة، ولم يكن بين مولده ووفاة أبي العبَّاس السفَّاح كبيرُ دهْر حتى يكونَ ممَّن يختلط عليه الحقُّ في مثل هذا الأمر، وبخاصَّة وهو يروي ما يروي عن الثِّقات في معرفة أخبار رجال الدولة.
أمَّا سكوت الطبريِّ وغيره من متأخِّري المؤرِّخين عند صدر الدولة العباسيَّة، فليس يُعدُّ دليلاً على بطلان هذا اللَّقب، وإن دلَّ على شيء فربَّما دلَّ على أنَّهم جانبوه وتباعدوا عنه، وتركوه لِمَا كان قد انتشر في عصرهم من معنى السَّفَّاح على أنَّه السفَّاك للدِّماء، وخفاء معنى هذا اللَّفظ الأول، وهو الكريم الباذل الفيَّاض الذي يكون عطاؤه للمال حثْيًا.
هذه كلمةٌ صغيرة إلى الأستاذ العباديِّ أرجو أن أكونَ قد بَلَغْتُ بها بعضَ رِضاه في التعقيب على رأيه الذي انتهى إليه ووقف عنده، ولعلَّه يعودُ إلى الذي كَتَبه، فإنَّ له بالعِلم بصيرةً نافذة مسدَّدة - إن شاء الله.
المصدر: الرسالة: العددان 340، 342، سنة 1940هـ
موقع الألوكة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق