الثلاثاء، 29 يونيو 2010

أباطيل وأسمار

عرض : أنس حسن- موقع لواء الشريعة


"أباطيل وأسمار" كتاب للعلامة الشيخ "محمود محمد شاكر" صدر في جزأين..  هذا الكتاب واحد من أهم الكتب في قائمة التراث الثقافي لطائفة من أعلام الفكر والثقافة والأدب الذين كانوا جيلاً رائدًا في عقد العشرينيات والثلاثينيات من القرن الميلادي المنصرم وتلاميذهم الذين كانوا جيلاً تاليًا له.

    الجزء الأول من الكتاب هو مساجلات وردود على مقالات  الدكتور لويس عوض (1914 ـ 1990م) ومحمود شاكر ولويس عوض كانا تلميذين للدكتور طه حسين، وإن اختلفا في تقويم الرجل، فالشيخ محمود شاكر لا ينكر علمه ولا تفرده في مجاله غير أنه يراه تقريبًا يسعى إلى فرض التغريب الثقافي على العالم الإسلامي، ويراه الدكتور لويس عوض رائدًا من رواد التنوير في مصر والعالم العربي، ويعتبر نفسه امتدادًا لشيخه الدكتور طه حسين.

   و لم يكن الخلاف بين الدكتور لويس عوض والشيخ محمود شاكر اختلافًا حول بعض آراء واجتهادات وتقويم الرجال، ولكنه كان اختلافاً ما بين مدرستين: مدرسة التغريب الثقافي التي يمثلها الدكتور لويس عوض، ومدرسة الأصالة العربية الإسلامية التي لا ترفض المثاقفة والإفادة من كل تراث إنساني، ولكن وفقًا لمعايير يتم التحاكم إليها وتنبثق من المرجعية الإسلامية.

   أيضًا في كلا الجزأين الأول والثاني من هذا الكتاب كان منهج الشيخ محمود محمد شاكر واضحًا لا لبس ولا التواء فيه؛ فهو صاحب مرجعية إسلامية واضحة يحاكم إليها كل ما يعرض له من شئون الحياة، ولا سيما تلك الجوانب التي تمس الفكر والثقافة وما يمت إليهما بصلة، أما الدكتور لويس عوض فليس من الصواب في شيء أن ننسبه إلى منهج أو أن نتحدث عن مرجعية يعتمدها، بل هو تقريبي صاحب هوى وليس مفكر صاحب مشروع ثقافي أو فكري، ولعل ما كشف عنه الشيخ محمود محمد شاكر من تزوير وتزييف وإحالات مرجعية إلى مصادر لا تتطابق، وربما تناقضت مع ما يطرحه الدكتور لويس عوض من معلومات ينسبها إلى هذه المظاهر هي خير شاهد على ما ذهبنا إليه من إنه ليس من الصواب أن ننسبه إلى فكر أو منهج أو علم صحيح.

    وكذلك لم يكن هذا الصراع الثقافي بعيدًا عن المرجعيات؛ لأنه يمس مسلَّمات لكلا الرجلين فالشيخ محمود شاكر يرى أن تراث الأمة الإسلامية وتاريخها الثقافي والحضاري يستند إلى الكتاب والسنة، ويجعل كل نقدٍ أو نظر أو تجديد لهذا التراث ينطلق من ذات المرجعية، والدكتور لويس عوض الذي لا يملك مرجعية لم يكن بعيدًا عن المفهوم السوقي للمرجعية الغربية التي لا ينادي بها عن فهم أو نظرٍ يمثل تصورًا كليًا لمشروع حضاري أو ثقافي، ولكن محاولته كانت أقرب إلى سلخ الأمة عن ذاتها والتغريب بذات المعنى السوقي الذي أشرنا إليه، أي أن المطلوب لم يكن المثاقفة ولا الحوار الثقافي أو الحضاري ولكن مسخ هوية الأمة؛ انبهارًا بالغرب وتحقيقًا للمصالح التي يمثل لويس عوض واحدًا من أدواتها لتحقيق ما يمثل امتدادًا لها، ولكن على نحو شائه بفرض الثقافة الغربية، وكأنها تمثل حضارة كونية، وتلك مغالطة يسعى كثير من دعاة التغريب الثقافي إلى الترويج لها، وكأنها حقيقة لا تقبل الجدل، وهي ليست كذلك ولعل معركة كتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني أو معركة الشعر العمودي والشعر الحر، ومعركة التحديث في العالم الإسلامي على النمط الغربي وغيرها كثير كانت انعكاسات لهذا الصراع الجوهري بين التغريبيين ودعاة التوجه العربي الإسلامي.

    كانت مادة كتاب "أباطيل وأسمار" قد جُمعت بعد أن كانت مقالات نشرها العلامة الشيخ محمود شاكر في مجلة الرسالة في عقد الستينيات من هذا القرن، ثم جمعها في كتاب في عام (1972م) وقد دارت المعركة الثقافية التي أدت إلى هذه المساجلات حول الفيلسوف والشاعر والأديب العربي "أبي العلاء المعري" (363- 449 هـ)، وهو أديب وفيلسوف وناقد وعالم موسوعي ضرير، كانت له مواقف من البشر والحياة ومراجعات نقدية وفلسفية لطبيعة الحياة والبشر والعلاقة بمجتمعه، وقد كان متشائمًا، ولكنه لم يكن ملحدًا كما يشاع عنه، بل كان مؤمنًا يكاد شعره وتأملاته الفلسفية تنضحان بإيمانه وتسليمه للمشيئة الإلهية، ولكن الدكتور لويس عوض ولأمر في نفس يعقوب سعى لتصوير أبي العلاء المعري وكأنه فيلسوف ملحد، أو صاحب شك في الأديان والمعتقدات وفي الإسلام على نحو أخص، ويسعى إلى التشكيك في الأصول العربية لأبي العلاء، وزعم أن هذا الفيلسوف الكبير قد تلقى كثيرًا من علومه ومعارفه من اتصاله بالحملات الصليبية التي اجتاحت الشام في عهد الحروب الصليبية، واستشهد استشهادات مغلوطة بشعر أبي العلاء لكي يؤكد ما زعمه من هذه المغالطات، ومن هذه المغالطات قول أبي العلاء المعري يصف الإبل:-

صليت نار الهجير      وباتت تغص بالصليان

    والتي حرفها الدكتور لويس عوض فقال: وباتت تغص بالصلبان؛ لكي يثبت ما زعمه من تأثير أوروبي على الثقافة الإسلامية في فترة الحروب الصليبية، وقد أنكر عليه الشيخ محمود محمد شاكر هذا التعريف الذي لا يخلو من غرض، وإن كان يفضح جهل الدكتور لويس عوض، وإلا فكيف تأكل الإبل الصلبان لتغص بها؟!

    وينعي الشيخ محمود شاكر على الدكتور لويس عوض زعمه أن أبا العلاء قد تلقى جانبًا كبيرًا من ثقافته عن الصليبين الذين وصلوا إلى قريته (معرة النعمان)، وهذا ما ينفيه الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر؛ استنادًا إلى قرائن تاريخية ونقدٍ فاحص لرواية الدكتور لويس عوض ومصادرها، ويؤكد أن الأرومة التي ينتسب إليها فيلسوف المعرة الضرير أبو العلاء المعري كانت عربية خالصة، ولم يكن فيها أي جذر أجنبي ليدحض مغالطة الدكتور لويس عوض التي تتطابق مع مزاعم بعض المستشرقين الأجانب أن العنصر السامي الذي ينتسب إليه العرب ليس له ملكات ولا عبقرية التحليل والتركيب؛ ومن ثم فهو ليس أهلاً للفلسفة ولا التفلسف على خلاف العقل الآري البارع التحليل والتركيب والقادر علي التفلسف، ويرد الشيخ محمود محمد شاكر هذه الفرية إلى المستشرقين الأوربيين الذين افتروها، ويكشف مدى إقبال الدكتور لويس عوض على الأخذ من الغث والسمين من المصادر الغربية دون تمحيص ولا نظر، وبدرجة شديدة الخلط بين الغث والسمين، وعلى النحو الذي يجعل نقله عن هذه المصادر الغربية يختلف تمامًا عمن ينقلون عنها على سبيل التمحيص والنظر والقبول والرفض والمثاقفة، "أي الأخذ والعطاء المتبادل بين الثقافات والحضارات المتباينة".

    وليست كتابات الدكتور لويس عوض عن فيلسوف المعرة الضرير في رأي الشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر بعيدة عن ما يرمي إليه من مقاصد ونوايا تتمثل في خدمة أغراض التبشير والاستشراق التي تسعى إلى مسخ هوية الأمة الإسلامية وسلخها عن ذاتها، وذلك منذ عام 1947م حين أصدر ديوانه الوحيد الذي لا ثاني له والذي أسماه (بلوتولاند وقصائد أخرى)، الذي لم يكن ديوان شعر، ولكنه محاولة لكتابة ما زعمه شعرًا ـ وليس له من مقومات الشعر شيء ـ باللغة العامية المصرية، وقد تعهّد الدكتور لويس عوض في المقدمة التي كتبها لهذا الديوان بالدعوة إلى العامية والكتابة بها، ومحاربة اللغة العربية، والغض من شأن من يكتبون بها.

     وتأسيسًا على كل ذلك يخلص العلامة الشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر إلى أن لويس عوض لم يكن أديبًا ولا مفكرًا بل كان صبيًا من صبية الاستشراق الأجنبي، مع أنه لم يكن يملك من الأدوات ما يستطيع به التمويه على أغراضه المشبوهة التي يرمي، وليس هنالك ما يدعو إلى استخلاص هذه الأغراض من كتاباته بعد أن صرح بها دون مواربة في ديوانه الآنف الذكر "بلوتولاند وقصائد أخرى"، على الرغم من أن الشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر يرى أن صبي الاستشراق هذا قد أخذ عن شيخه سلامة موسى (1888- 1958م) الذي يراه الأستاذ محمود محمد شاكر كاتبًا صليبيًا معاديًا للإسلام والمسلمين، وساعيًا لتحقيق ما فشلت الصليبية الأوربية في تحقيقه بالوسائل العسكرية عن طريق كتاباته التي يزعمها، أدبًا وثقافة، وهي ليست من الأدب والثقافة في شيء، ولكن الشيخ محمود يرى أن سلامة موسى كان أكثر مراوغة والتواءً من تلميذه وإن كانت أغراضه لا تخفى على أولي الألباب من المسلمين، وربما كان الشيخ محمود شاكر أكثر اقترابًا من حقيقة أهداف وغايات الغزو الثقافي للعالم الإسلامي في مقدمته لكتابه عن أبي الطيب المتنبي، والذي صدر في عام 1936م، ثم رأى الشيخ الأستاذ أن يصدرها في كتاب مستقل أسماه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) وقد صدر هذا الكتيب القيم في سلسلة كتاب الهلال في أكتوبر 1987م، وفي مكتبة الأسرة عام 1997م، وعلى ذات منحى هذا الكتاب كتب الشيخ الأستاذ مقدمته التي جعلها توطئة لكتاب صديقه المفكر الإسلامي الراحل الأستاذ "مالك بن نبي" (1905- 1973م) "الظاهرة القرآنية"، والتي تناول فيها ذات الأغراض التي تحمي المستشرقين والقساوسة أعداء الإسلام من وزراء شئون المستعمرات ومستشاريهم ـ من المستشرقين الذين تتطابق أغراضهم مع أغراض القساوسة ويلبسون أردية العلماء وليسوا علماء بل هم قساوسة ومتنصرون ـ وهذه المقدمة تصلح أن تكون كتابًا مستقلاً شأنها في ذلك شأن كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا).

    وكل المعارك التي خاضها العلامة محمود محمد شاكر مع أستاذه طه حسين ومع لويس عوض، ليست سوى معركة واحدة في جوهرها وهي الصراع الحضاري والثقافي بين الغرب الاستعماري الصليبي والعالم الإسلامي، وهو يرى أن الغرب ومنذ انتصار حملة الملك لويس التاسع التي أطلق عليها (الحملة الصليبية العاشرة) قد استبدل الهجوم على العالم الإسلامي بالجيوش والأساطيل الحربية إلى الغزو الثقافي والمسخ الفكري والثقافي والحضاري؛ اتساقًا مع وصية الملك لويس التاسع التي كتبها في سجنه بدمياط قبل الإفراج عنه بعد أن دفعت فديته.

    وهذا ما أدركه العلامة الشيخ محمود محمد شاكر وجعله معركته الكبرى التي يصارع من أجل الانتصار فيها لأمته ولقيمها ومنظومتها الحضارية، وهذا ما قاده إلى معركته الأشهر في تاريخ المعارك الأدبية في مصر الحديثة، وهي معركته مع أستاذه الدكتور طه حسين حول كتابه عن الأدب الجاهلي، والتي لا تنفصل عن كل معاركه التي خاضها، وإن كانت هذه المعركة هي أول معاركه وهي المعركة التي قادته إلى ترك الجامعة غير آسف ولا مبالٍ، منذ بداية العام الثاني لالتحاقه بجامعة القاهرة (في عام 1927م).

     ولعل الأسباب التي ساقها لترك الجامعة هي شاهدنا الأكبر على مبدئيته في كل معاركه التي خاضها؛ فالأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر يرى أن نظرية انتحال الأدب الجاهلي التي نسبها طه حسين إلى نفسه هي نظرية كان المستشرق الإنجليزي مرجليوث قد قال بها، ومع ذلك نسبها طه حسين إلى نفسه، وقد قرأها  العلامة محمود محمد شاكر في مجلة الاستشراق البريطاني (عدد يوليو 1925م) في  أصلها الإنجليزي ثم فوجئ بالدكتور طه حسين يدرّس طلابه ذات النظرية وباللغة العربية ثم ينسبها إلى نفسه، وقد واجه الشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر أستاذه طه حسين وقرأ له فقرات مطولة من مقال المستشرق  مارجليوث، ثم ترجمها إلى اللغة العربية، وسأل أستاذه من منكما أخذ عن الآخر، هل أخذها مرجليوث عنك أم أخذت عنه.

     وقد قدر طه حسين عبقرية تلميذه، وحينما قرر محمود شاكر ترك الجامعة زار طه حسين منزل محمود شاكر، وتحدث إلى أبيه العلامة الشيخ محمد شاكر ـ وهو عالم كبير ـ محاولاً أن يقنع ابنه محمود أن يعود إلى الجامعة، ومثنيًا على عبقريته، وقد سعى الشيخ محمد شاكر إلى إقناع ابنه للعودة إلى الجامعة فعرض محمود على أبيه أن يعود إلى الجامعة امتثالاً لأمره وليس قناعة منه بضرورة العودة إلى الجامعة، وإلا فيتركه وما قرر؛ لأنه يرى الجامعة مؤسسة تعليمية كبرى ينبغي لأساتذتها أن يعلموا تلاميذهم القيم والمثل والأخلاق قبل الدرس وبعده، وهذا ما لم يجده في جامعة القاهرة.

    ويمثل كتاب "أباطيل وأسمار" جزءًا مقدرًا من تراث المعارك الأدبية والفكرية في بدايات القرن العشرين في العالم الإسلامي الذي تمثل مصر قلبه، وتمثل المؤامرة الصليبية عليها المعركة الأكثر خطورة وحسمًا لمجمل معارك الصليبية في العالم الإسلامي بأسره، وكلا الجزئيين لا ينفصلان عن جوهر صراعات، ومعارك العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر، الذي تتلمذ عليه كثير من العلماء وأبناء مدرسة التوجه العربي الإسلامي في مصر وفي العالم الإسلامي.


 لتحميل نسخة مصورة (pdf) من الكتاب:
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=256
أو:
http://www.islamway.com/index.php?iw_s=library&iw_a=bk&lang=1&id=2341

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق